الرَّحِيمِ الَّذِي لَمْ يَحْرِمْ أَحَدًا مِنْ رِزْقِهِ لِاعْتِقَادِهِ. أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكِ مَحْظُورًا [١٧: ٢٠] قَالَ: وَفِي كَوْنِ الْإِنْفَاقِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِوَجْهِ اللهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذَا كَانَ إِعَانَةً لَهُمْ عَلَى إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ جَائِزًا ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَرْضِيًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَهُ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُنْفِقُوا إِلَّا لِوَجْهِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
ثُمَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ لَا يُنْقِصُكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَدَ أَوَّلًا بِأَنَّ خَيْرَ الْإِنْفَاقِ عَائِدٌ عَلَى الْمُنْفِقِينَ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: فَلِأَنْفُسِكُمْ ثُمَّ وَعَدَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مُوَفًّى تَامًّا، وَقَالَ: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَوْ نَقِيرًا أَوْ فَتِيلًا. أَقُولُ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّهُ جَعَلَ هُنَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فِلِأَنْفُسِكُمْ خَاصًّا بِالدُّنْيَا، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ عَامٌّ قَدْ قَالَهُ فِي الدَّرْسِ، فَهَلْ كَانَ سَبْقَ لِسَانٍ أَمْ رَجَعَ عَنْهُ عِنْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَكَيْفَ فَاتَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ هَذَا مَا وَجَدْتُهُ فِي مُذَكِّرَتِي لَا أَذْكُرُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ.
أَقُولُ: وَالَّذِي كَانَ تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [٢: ٢٦٥] أَيْ إِنَّ أَيَّ نَفَقَةٍ مِنَ الْخَيْرِ أَنْفَقْتُمْ فَهِيَ تُفِيدُكُمْ فِي تَثْبِيتِ أَنْفُسِكُمْ فِي مَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ مَا تُنْفِقُونَ ذَلِكَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَإِرَادَةَ رِضْوَانِهِ، وَمَتَى كَانَ الْإِنْفَاقُ كَذَلِكَ كَانَ مُزَكِّيًا وَمُثَبِّتًا لِلنَّفْسِ مُعِدًّا لَهَا، وَمُؤَهِّلًا لِرِضْوَانِ اللهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا ; إِذِ الْإِنْفَاقُ لَيْسَ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ الْأَجْرِ مِنْهُ، وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَائِدَةَ الذَّاتِيَّةَ لِلْإِنْفَاقِ فِي نَفْسِ الْمُنْفِقِ ذَكَرَ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ إِلَخْ. أَيْ وَإِنَّكُمْ عَلَى اسْتِفَادَتِكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي أَنْفُسِكُمْ بِتَرْقِيَتِهَا وَجَعْلِهَا مُسْتَحِقَّةً لِقُرْبِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ، لَا يُضِيعُ عَلَيْكُمْ مَا تُنْفِقُونَهُ، بَلْ تُوَفَّوْنَهُ لَا تُظْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَشَدُّ الْتِئَامًا وَأَحْسَنُ نِظَامًا، فَالْجُمْلَتَانِ الشَّرْطِيَّتَانِ فِيهِ مُتَعَاطِفَتَانِ، وَقَوْلُهُ: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ قَيْدٌ فِي الشُّرْطِيَّةِ الْأُولَى ; وَلِلْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَا فَائِدَتَانِ:
أُولَاهُمَا: وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ: تَثْبِيتُ نَفْسِ الْمُنْفِقِ وَتَرْقِيَتُهَا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ.
وَالْأُخْرَى: الثَّوَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ دُونَ الْأُولَى عِنْدَ الْعَارِفِينَ.
وَابْتِغَاءُ وَجْهِ اللهِ بِالْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ دُونَ سِوَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَإِرْضَاءً لَهُ لِذَاتِهِ لَا لِلتَّشَوُّفِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَرْضُهُ عَلَيْهِ وَمُقَابَلَتُهُ بِهِ فَقَطْ، وَلَا يَفْهَمُ هَذَا حَقَّ فَهْمِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَرَاتِبَ النَّاسِ وَمَقَاصِدَهُمْ فِي خِدْمَةِ الْمُلُوكِ، ذَلِكَ
أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِلْمَلِكِ


الصفحة التالية
Icon