خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ قَانُونُهُ أَوِ التَّقْصِيرِ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِأَجْلِ اقْتِضَاءِ الْأَجْرِ الَّذِي فُرِضَ لِلْعَمَلِ فَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ فَيُجِيدُ الْعَمَلَ لِأَجْلِ الِارْتِقَاءِ مِنْ جَزَاءٍ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ - وَهُوَ أَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً - مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْحَسَنَ الْمُرْضِي لِلْمَلِكِ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ فِي نَظَرِهِ مُحْسِنًا عَارِفًا قِيمَةَ الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَمَا وَرَاءَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي كَانَتْ عِلَّةَ الْأَمْرِ فَمِثْلُ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ مُبْتَغٍ وَجْهَ الْمَلِكِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَرَاهُ فِيهَا مُحْسِنًا، فَإِنَّ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِأَنَّ يُرَى فَإِنَّمَا يَأْتِي مِنْ تِلْقَاءِ الْوَجْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لَا يَبْتَغِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُوَاجِهَ النَّاسَ - لَا الْمُلُوكَ خَاصَّةً - بِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ كَمَالٌ لَا يَبْتَغِي غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَأَرْشَدَ اللهُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلِهِ الصَّالِحِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - كَذَلِكَ، أَيْ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ وَيَبْتَغِيَ أَنْ يَرَاهُ اللهُ - تَعَالَى - كَامِلًا يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ حَسَنٌ، تَتَحَقَّقُ بِهِ حِكْمَتُهُ - تَعَالَى -، وَتَقُومُ بِهِ سُنَنُهُ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ مَعْنَى ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ طَلَبُ إِقْبَالِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلْعَامِلِ، قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [١٢: ٩] فَمَعْنَى خُلُوِّ وَجْهِهِ لَهُمْ أَلَّا يُشَارِكَهُمْ فِي إِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهِ لَهُمْ مُشَارِكٌ، وَلِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ مَنْزَعٌ دَقِيقٌ فِي مَعْنَى وَجْهِ اللهِ، وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهَيْنِ:
وَجْهًا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ الْحَادِثِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ عُرْضَةٌ لِلزَّوَالِ.
وَوَجْهًا إِلَى الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ وَهُوَ وَجْهُ اللهِ - تَعَالَى -، فَمَعْنَى وَجْهُ اللهِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا الْمَنْزَعِ، أَنْ يَقْصِدَ بِهِ ثَمَرَتَهُ الدَّائِمَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ بِارْتِقَاءِ النَّفْسِ فِي الْكَمَالِ الَّذِي يُؤَهِّلُهَا لِلْبَقَاءِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
إِذَا فَهِمَتْ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى إِيرَادِ طَرِيقَتَيِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَآيَاتِ الصِّفَاتِ، كَأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوَجْهَ صِفَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَوْ إِنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الذَّاتِ، حَتَّى يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ صِفَةِ اللهِ الَّتِي سَمَّاهَا وَجْهًا، وَآمِنًا بِهَا مَعَ تَنْزِيهِهِ - تَعَالَى - عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَعَلَى الثَّانِي وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ ذَاتِ اللهِ - تَعَالَى -. هَذَا مَا لَا يَظْهَرُ مَعَهُ لِلْآيَةِ مَعْنًى، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَجْلَى، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْأُسْتَاذَ اكْتَفَى - كَالْمُفَسِّرِينَ - بِجَعْلِهِ مَعْنَى مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ وَبِإِيتَاءِ الْفُقَرَاءِ عَامَّةً نَبَّهَ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ التَّحَرُّجِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَتْهُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَثَانِيهُمَا: بَيَانُ أَحَقِّ النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ ذُكِرَتْ صِفَاتُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ خَمْسُ صِفَاتٍ مَنْ أَفْضَلِ الصِّفَاتِ


الصفحة التالية
Icon