وَأَعْلَاهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ أَرْصَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْخُرُوجِ مَعَ السَّرَايَا، وَلَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ كَغَيْرِهِ هُوَ أَكْثَرُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَدَدُهُمْ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مُتَوَسِّطَ عَدَدِهِمْ كَانَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَالَّذِينَ عُرِفَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مِنْهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مِائَةً وَهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، لَمْ يَكُنْ لِأَكْثَرِهِمْ مَأْوًى ; لِذَلِكَ كَانُوا يُقِيمُونَ فِي صُفَّةِ الْمَسْجِدِ وَهِيَ مَوْضِعٌ مُظَلَّلٌ مِنْهُ، فَالصُّفَّةِ - بِالضَّمِّ - كَالظُّلَّةِ لَفْظًا وَمَعْنًى (قَالَ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمِ الْآيَةُ كَانُوا مِنَ الَّذِينَ هَاجَرُوا بِدِينِهِمْ وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ فَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، فَهُمْ مُحْصَرُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِهَذِهِ الْهِجْرَةِ، وَمُحْصَرُونَ بِحَبْسِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَ حِفْظُهُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّهُ حِفْظٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَحْفَظُونَهُ لِأَجْلِ تِلَاوَتِهِ أَمَامَ الْجَنَائِزِ، وَلَا فِي الْأَعْرَاسِ وَالْمَآتِمِ، وَلَا لِاسْتِجْدَاءِ النَّاسِ بِهِ، وَلَا لِمُجَرَّدِ التَّعَبُّدِ بِتِلَاوَةِ أَلْفَاظِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَحْفَظُونَهُ لِلْفَهْمِ وَالِاهْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِحِفْظِ أَصْلِ الدِّينِ بِحِفْظِهِ، وَكَانُوا أَيْضًا يَحْفَظُونَ مَا يُبَيِّنُهُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُنَّتِهِ.
(قَالَ) وَيَحْتَجُّ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ أَكَلَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ التَّكَايَا الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ إِلَيْهَا تَارِكِينَ لِلْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، فَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَيْسَ فِيهِمْ صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ بِهَا أَهْلَ الصُّفَّةِ، وَإِنَّمَا قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِدِينِهِمْ، يَأْكُلُونَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ لِأَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَاصَّةً، فَهِيَ لَهُمْ كَالْأَدْيَارِ لِلنَّصَارَى وَهُمْ فِيهَا كَالرُّهْبَانِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَزَوَّجُ - وَقَدْ يَخْرُجُ الَّذِي يَتَزَوَّجُ مِنَ التَّكِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ الْمُقِيمِ فِيهَا أَلَّا يَتَزَوَّجَ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْتَزِمُ الْإِقَامَةَ فِي التَّكِيَّةِ وَإِنَّمَا يَجْمَعُهُ بِأَصْحَابِهَا اسْمُ الطَّرِيقَةِ، كَأَصْحَابِ السَّيَّارَاتِ الَّذِينَ يَنْزِلُ شَيْخُ الطَّرِيقَةِ مِنْهُمْ بِزِعْنِفَةٍ مِنْ جَمَاعَتِهِ
بَلَدًا بَعْدَ آخَرَ، فَيُكَلِّفُونَ مَنْ يَسْتَضِيفُونَهُ الذَّبَائِحَ وَالطَّعَامَ الْكَثِيرَ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُونَ إِلَّا مُثْقَلِينَ، يُسْأَلُونَ فَيُلْحِفُونَ، بَلْ يَسْلُبُونَ وَيَنْهَبُونَ، فَإِذَا مُنِعُوا مَا أَرَادُوا انْتَقَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِانْتِقَامِ، أَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ يَحْفَظُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ضُرُوبِ الْإِيذَاءِ، وَمِنْهُ مَا يُبْرِزُونَهُ فِي مَعْرِضِ الْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ، حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ مِنَ الْفَلَّاحِينَ مِنْ قَصَّرَ فِي إِجَابَةِ مَطَالِبِ بَعْضِ الشُّيُوخِ عِنْدَمَا نَزَلَ وَزِعْنِفَتُهُ بِهِ فَأَحْرَقُوا لَهُ جُرْنَ (بَيْدَرَ) الْحِنْطَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ أَحْرَقَهُ بِغَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ كَرَامَةً لِشَيْخِهِمْ، وَحُدِّثْتُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اتَّخَذَ فِي رَأْسِ الْعَلَمِ الَّذِي يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ عَدَسَةً مِنَ الزُّجَاجِ كَانَ يُوَجِّهُهَا مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمْسِ إِلَى الْجُرْنِ الَّذِي يُرِيدُ إِحْرَاقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الْفَلَّاحُونَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُرِيدُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَيَقَعُ الْحَرِيقُ فِيهِ وَلَمْ يَدْنُ أَحَدٌ مِنْهُ، فَلَا يَشُكُّ الْفَلَّاحُونَ الْجَاهِلُونَ فِي أَنَّ الْحَرِيقَ كَانَ كَرَامَةً لِلشَّيْخِ الَّذِي لَا حِرْفَةَ لَهُ إِلَّا أَكَلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْكَذِبِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَادِّعَاءِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ الضَّالُّونَ


الصفحة التالية
Icon