هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَصْلًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَحَاشَ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ.
مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَصَابَتْهُمُ الْجِرَاحَاتُ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - فَصَارُوا زَمْنَى، فَجَعَلَ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ كَانَ لَهُ حُكْمُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْجَزُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَبْسُطَ الْقَوْلَ فِيهَا فَأَقُولُ:
(الصِّفَةُ الْأُولَى) الْإِحْصَارُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ الْمَانِعُ مِنَ الْكَسْبِ فِيهِ بِسَبَبٍ اضْطِرَارِيٍّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ حَبْسَ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ فِي الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ كَالْجِهَادِ وَالْعِلْمِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الْإِنْسَانَ عَنِ الْكَسْبِ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ لِلْقِيَامِ بِأَوَدِهِ بَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ مِنَ
الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ مَعِيشَتِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْكَسْبَ مُخْتَارًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ، أَمَّا السَّبَبُ الِاضْطِرَارِيُّ لِلْإِحْصَارِ عَنِ الْكَسْبِ فَمِنْهُ مَا هُوَ طَبِيعِيٌّ كَالْعَجْزِ وَمَا هُوَ شَرْعِيٌّ كَالْعِلْمِ بِتَعْطِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا إِذَا هُوَ تَرَكَهَا لِأَجْلِ الْكَسْبِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ النَّاسُ لِذَلِكَ بِأَنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَعْجَزُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ وَكَانَ جَمْعُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ مُتَعَذِّرًا وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْكَسْبِ وَحَبْسُ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَانُوا بِذَلِكَ مُحْصَرِينَ بِالِاضْطِرَارِ الشَّرْعِيِّ، وَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلَّا فَعَلَى أَغْنِيَاءِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِذَلِكَ أُنَاسٌ مَخْصُوصُونَ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ الْإِحْصَارُ لِتَعَلُّمِ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ.
(الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ أَيْ إِنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْكَسْبِ، وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ هُوَ السَّفَرُ لِنَحْوِ التِّجَارَةِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، وَهُنَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا مِنِ اشْتِرَاطِ الِاضْطِرَارِ فِيمَا يُحْصَرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا يُحْصَرُ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا ; وَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ وَلَوْ بِالسَّفَرِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الصَّدَقَةَ.
(الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أَيْ إِذَا رَآهُمُ الْجَاهِلُ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ يَظُنُّهُمْ أَغْنِيَاءَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنَزُّهِ عَنِ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكُلِّ مَا لَا يَلِيقُ كَالْقَبِيحِ وَالْمُحَرَّمِ، وَقَدْ فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ التَّعَفُّفَ: بِالْعِفَّةِ وَبِالصَّبْرِ وَالنَّزَاهَةِ عَنِ الشَّيْءِ، وَجَعَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا لِلتَّكَلُّفِ، وَلَكِنْ صِيغَةُ " تَفَعَّلٍ " تَأْتِي لِتَكَلُّفِ الشَّيْءِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِيهِ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ هُنَا، لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّفُ الْعِفَّةَ قَلَّمَا يَخْفَى حَالُهُ عَلَى رَائِيهِ،


الصفحة التالية
Icon