وَأَمَّا الْمُبَالِغُ فِي الْعِفَّةِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَكَادُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ أَثَرُ الْحَاجَةِ، فَهُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْمَدْحِ وَالْمُبَالِغُ فِي الْفَضِيلَةِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ مُتَكَلِّفِهَا.
(الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ أَيْ بِعَلَامَاتِهِمِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، قِيلَ: هِيَ الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقِيلَ: هِيَ الرَّثَاثَةُ فِي الثِّيَابِ أَوِ الْحَالِ، وَلَيْسَا بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: بِآثَارِ الْجُوعِ وَالْحَاجَةِ فِي الْوَجْهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ السِّيمَا لَا تَتَعَيَّنُ بِهَيْأَةٍ خَاصَّةٍ لِاخْتِلَافِهَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تُتْرَكُ إِلَى فِرَاسَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَتَحَرَّى بِالْإِنْفَاقِ أَهْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَصَاحِبُ الْحَاجَةِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَفَرِّسِ مَهْمَا تَسَتَّرَ وَتَعَفَّفَ، فَكَمْ مِنْ سَائِلٍ يَأْتِيكَ رَثَّ الثِّيَابِ خَاشِعَ الطَّرَفِ وَالصَّوْتِ تَعْرِفُ مِنْ سِيمَاهُ
أَنَّهُ يَسْأَلُ تَكَثُّرًا وَهُوَ غَنِيٌّ، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُقَابِلُكَ بِطَلَاقَةِ وَجْهٍ وَحُسْنِ بِزَّةٍ فَتَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي لَحْنِ قَوْلِهِ، وَمَعَارِفِ وَجْهِهِ أَنَّهُ مِسْكِينٌ عَزِيزُ النَّفْسِ.
(الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا أَيْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ سُؤَالَ إِلْحَاحٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الشَّحَّاذِينَ، وَأَهْلِ الْكُدْيَةِ الْمَعْرُوفِينَ، فَالْإِلْحَافُ: هُوَ الْإِلْحَاحُ فِي السُّؤَالِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ نَفْيُ سُؤَالِ الْإِلْحَافِ لَا مُطْلَقُ السُّؤَالِ، وَأَمَّا ظَاهِرُ السِّيَاقِ فَهُوَ أَنَّ الْقَيْدَ لِبَيَانِ حَالِ السَّائِلِينَ فِي الْعَادَةِ، وَأَنَّ النَّفْيَ لِلسُّؤَالِ مُطْلَقًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا شَيْئًا لَا سُؤَالَ إِلْحَافٍ وَلَا سُؤَالَ رِفْقٍ وَاسْتِعْطَافٍ، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ هُوَ مَا تُؤَيِّدُهُ الْأَخْبَارُ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَفِي لَفْظٍ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ.
وَالسُّؤَالُ مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ فَالْفَقْرُ الْمُدْقِعُ: هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يُلْصِقُ صَاحِبَهُ بِالدَّقْعَاءِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَالْغُرْمُ - بِالضَّمِّ - مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ تَكَلُّفًا لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَمِنْهُ مَا يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّفَقَةِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، كَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ وَحِفْظِ مَصْلَحَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مُسَاعَدَتَهُ عَلَى مَا يَحْمِلُهُ مِنَ الْمَغَارِمِ. وَقَدِ اشْتَرَطَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ الَّذِي تَسْأَلُ الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ مُفْظِعًا أَيْ شَدِيدًا فَظِيعًا، فَإِذَا تَحَمَّلَ غُرْمًا خَفِيفًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ لِأَجْلِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُتَحَمِّلِينَ، وَأَمَّا ذُو الدَّمِ الْمُوجِعِ فَهُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ عَنِ الْجَانِي مِنْ قَرِيبٍ أَوْ حَمِيمٍ أَوْ نَسِيبٍ لِئَلَّا يُقْتَلَ فَيَتَوَجَّعَ لِقَتْلِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ مِنْ


الصفحة التالية
Icon