النَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ، وَتُسَمَّى بِالْمَيِكْرُوبَاتِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَوْعًا مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا عِلَلٌ لِأَكْثَرِ الْأَمْرَاضِ. قُلْنَا ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، عَلَى أَنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى النِّزَاعِ فِيمَا أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ وَقَرَّرَهُ الْأَطِبَّاءُ أَوْ إِضَافَةِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا لَا دَلِيلَ فِي الْعِلْمِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ تَصْحِيحِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأُحَادِيَّةِ، فَنَحْمَدُ اللهَ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يُعَارِضَهُ الْعِلْمُ.
قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلُ لِلرِّبَا مُسَبَّبٌ عَنِ اسْتِحْلَالِهِمْ لَهُ وَجَعْلِهِ كَالْبَيْعِ وَمَا هُوَ كَالْبَيْعِ ; فَإِنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ عَنْ دِينِهِمْ يَزِيدُونَهَا عِنْدَ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ، وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ فَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ ; لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا دُونَ الْبَيْعِ فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَلَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَكُلُّ مَا فِيهِ مُعَاوَضَةٌ صَحِيحَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَهِيَ بَيْعٌ حَلَالٌ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا صَاحِبُ الْمَالِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ فِي الْأَجَلِ، وَهِيَ لَا مُعَاوَضَةَ فِيهَا وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فَهِيَ ظُلْمٌ، وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِكَوْنِهِ ظُلْمًا. هَذَا مَا يَظْهَرُ لَنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَتَرَى مُفَسِّرِينَا قَدْ بَنَوْا كَلَامَهُمْ فِيهَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ الْبَيْعِ مِثْلَ الرِّبَا إِذْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ الرِّبَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ التَّعَبُّدِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا، فَيَجِبُ أَنْ يُطَاعَ.
وَيَظْهَرُ مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، قَالَ: " هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبْحِ حَالِهِمْ، وَوَحْشَةِ قِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَسُوءِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ وَيَفْتَرُونَ، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا الْبَيْعُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ لِعِبَادِهِ مِثْلُ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا حَلَّ مَالُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ، يَقُولُ الْغَرِيمُ الْحَقُّ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي مَالِكَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ: هَذَا رِبًا لَا يَحِلُّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ قَالَا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّ الْمَالِ، فَكَذَّبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قِيلِهِمْ فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ -
ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا مَا نَصَّهُ - يَعْنِي - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -: وَأَحَلَّ اللهُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَحَرَّمَ الرِّبَا، يَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يُزَادُ رَبُّ الْمَالِ بِسَبَبِ زِيَادَتِهِ غَرِيمَهُ فِي الْأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ دِينَهُ عَلَيْهِ. يَقُولُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَيْسَتِ الزِّيَادَتَانِ اللَّتَانِ إِحْدَاهُمَا مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ وَالْأُخْرَى مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ سَوَاءٌ ; وَذَلِكَ أَنِّي حَرَّمْتُ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ، وَأَحْلَلْتُ الْأُخْرَى مِنْهُمَا وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ الَّتِي يَبِيعُهَا فَيَسْتَفْضِلُ فَضْلَهَا، فَقَالَ اللهُ


الصفحة التالية
Icon