أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ ثَمَرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا طَيِّبًا - فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ وَالْحَدِيثُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ تَعَالَى: وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ قَالُوا: لَا يُحِبُّ لَا يَرْضَى، وَالْكُفَّارُ: الْمُسْتَحِلُّ لِلرِّبَا، وَالْأَثِيمُ: الْمُقِيمُ عَلَى الْإِثْمِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُبَّ اللهِ لِلْعَبْدِ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ يُعْرَفُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ إِتْمَامَ حُكْمِ اللهِ فِي صَلَاحِ عِبَادِهِ، وَنَفْيُ هَذَا الْحُبِّ يُعْرَفُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَالْكُفَّارُ هُنَا: هُوَ الْمُتَمَادِي عَلَى كُفْرِ إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ إِذْ لَا يُنْفِقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِهِ وَلَا يُوَاسِي بِهِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَالَ آلَةً لِجَذْبِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِلَى يَدِهِ فَافْتَرَصَ إِعْسَارَهُمْ لِاسْتِغْلَالِ اضْطِرَارِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ صَدَّقُوا تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَغَيْرِهَا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَشَأْنُ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَمِنْهَا مُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِينَ، وَالرَّحْمَةُ بِالْبَائِسِينَ، وَإِنْظَارُ الْمُعْسِرِينَ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرِنَ الْإِيمَانَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ الْمَقْرُونَ بِالْإِذْعَانِ يَتْبَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ حَتْمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الَّتِي تُذَكِّرُ الْمُؤْمِنَ بِاللهِ - تَعَالَى - فَتَزِيدُ فِي إِيمَانِهِ وَحُبِّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ لَهُ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ تَرْكُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالرِّبَا أَسْهَلُ.
وَذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا أَعْظَمَ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، فَمَنْ أَتَى بِهِمَا كَامِلَتَيْنِ سَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا الْجَزَاءِ قَرِيبًا فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ بِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِآكِلِ الرِّبَا - كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ؛ لَكَفَّ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ كَفَّارٌ أَثِيمٌ - وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَذَكَّرَهُمْ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لِمَنْ كَانُوا يُرَابُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ غُرَمَائِهِمْ، ثُمَّ وَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ تَامًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحْكَامِ فَذَرُوا بَقَايَا الرِّبَا، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُتَّصِفًا بِهَذَا الشَّيْءِ فَافْعَلْ كَذَا، وَيَذْكُرُ أَمْرًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِذَلِكَ الْوَصْفِ. أَقُولُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا بَعْدَ نَهْيِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْهُ وَتَوَعُّدِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْإِيمَانِ التَّامِّ الشَّامِلِ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى


الصفحة التالية
Icon