عَلَى إِرَادَةِ الْعَامِلِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ خُلُودِ مَنْ عَادَ إِلَى الرِّبَا بَعْدَ تَحْرِيمِهِ فِي النَّارِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ إِيمَانًا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ فَلَا يُذْعِنُ لَهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، فَهُوَ يَجْحَدُهُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَعْتَدُّ اللهُ بِإِيمَانِهِ إِلَّا إِذَا صَدَّقَ قَلْبُهُ وَعَمَلُهُ لِسَانَهُ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ لَكُمْ مِنَ الرِّبَا كَمَا أُمِرْتُمْ فَاعْلَمُوا وَاسْتَيْقِنُوا بِأَنَّكُمْ عَلَى حَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِذْ نَبَذْتُمْ مَا جَاءَكُمْ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ. فَقَوْلُهُ: فَأْذَنُوا كَقَوْلِهِ: " فَاعْلَمُوا " وَزْنًا وَمَعْنًى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ (فَآذِنُوا) بِمَدِّ الْأَلْفِ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، أَيْ فَأَعْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ - أَيْ لِيُعْلِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا - أَوِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِلْحُكْمِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ عَدَمَ الْخُضُوعِ لِلْأَمْرِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ خَارِجُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ مُحَارِبُونَ لَهُمَا.
فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَرْبَ اللهِ لَهُمْ بِغَضَبِهِ وَانْتِقَامِهِ. قَالَ: وَنَحْنُ إِنْ لَمْ نَرَ أَثَرَ هَذَا فِي الْمَاضِينَ فَإِنَّنَا نَرَاهُ فِي الْحَاضِرِينَ مِمَّنْ أَصْبَحُوا بَعْدَ الْغِنَى يَتَكَفَّفُونَ، وَمَنْ بَاتُوا وَالْمَسْأَلَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ (مُنَاصَبَةُ الْعُمَّالِ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ) تُهَدِّدُهُمْ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَأَمَّا الْحَرْبُ مِنْ رَسُولِهِ لَهُمْ فَهِيَ مُقَاوَمَتُهُمْ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنِهِ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَعْدَاءً لَهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ أَحَدٌ يُقِيمُ شَرْعَهُ وَإِنْ تُبْتُمْ وَرَجَعْتُمْ عَنِ الرِّبَا امْتِثَالًا وَخُضُوعًا فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ غُرَمَاءَكُمْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلَا تُظْلَمُونَ بِنَقْصِ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، بَلْ تَأْخُذُونَهُ كَامِلًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَجُلٍ مَنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَفَا فِي الرِّبَا إِلَى أُنَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ مَنْ بَنِي عَمْرٍو، وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَجَاءُ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا ; فَأَنْزَلَ اللهُ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ فَضْلٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ اسْتَعْمَلَ عِتَابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ يُرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبِي بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عِتَابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَكَتَبَ عِتَابُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتِ الْآيَتَانِ فَكَتَبَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عِتَابٍ، وَقَالَ:


الصفحة التالية
Icon