نُزُولِ وَاتَّقُوا يَوْمًا الْآيَةَ. وَوَرَدَ أَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُوهَا
بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلُوهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَرْتِيبِ الْآيَاتِ.
(فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا مِثَالُهُ: يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا وَتَرَبَّوْا تَرْبِيَةً عَصْرِيَّةً وَأَخَذُوا الشَّهَادَاتِ مِنَ الْمَدَارِسِ، بَلْ وَمَنْ هُمْ أَكْبَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُنُوا بِالْفَقْرِ، وَذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ إِلَى أَيْدِي الْأَجَانِبِ وَفَقَدُوا الثَّرْوَةَ وَالْقُوَّةَ بِسَبَبِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، فَإِنَّهُمْ لِاحْتِيَاجِهِمْ لِلْأَمْوَالِ يَأْخُذُونَهَا بِالرِّبَا مِنَ الْأَجَانِبِ، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا مِنْهُمْ لَا يُعْطِي بِالرِّبَا. فَمَالُ الْفَقِيرِ يَذْهَبُ وَمَالُ الْغَنِيِّ لَا يَنْمُو، وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَهَمَّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْعُمْرَانِيَّةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ مَا جَنَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا دِينُهُمْ. (قَالَ) وَهَذِهِ أَوْهَامٌ لَمْ تُقَلْ عَنِ اخْتِبَارٍ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُحَكِّمُونَ الدِّينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ وَلَوْ حَكَّمُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَا اسْتَدَانُوا بِالرِّبَا وَجَعَلُوا أَمْوَالَهُمْ غَنَائِمَ لِغَيْرِهِمْ، فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْلَ الرِّبَا لِأَجْلِ الدِّينِ فَهَلْ يَقُولُ الْمُشْتَبِهُونَ: إِنَّهُمْ تَرَكُوا الصِّنَاعَةَ وَالتِّجَارَةَ وَالزِّرَاعَةَ لِأَجْلِ الدِّينِ؟ أَلَمْ تَسْبِقْنَا جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى إِتْقَانِ ذَلِكَ؟ فَلِمَاذَا لَمْ نُتْقِنْ سَائِرَ أَعْمَالِ الْكَسْبِ لِنُعَوِّضَ مِنْهَا عَلَى أَنْفُسِنَا مَا فَاتَنَا مِنْ كَسْبِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا؟ وَدِينُنَا يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَسْبِقَ الْأُمَمَ فِي إِتْقَانِ كُلِّ شَيْءٍ.
الْحُقُّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَغْلَبِ قَدْ نَبَذُوا الدِّينَ ظِهْرِيًّا، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا تَقَالِيدُ وَعَادَاتٌ أَخَذُوهَا بِالْوِرَاثَةِ عَنْ آبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ، فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّ الدِّينَ عَائِقٌ لَهُمْ عَنِ التَّرَقِّي فَقَدْ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ وَأَضَافَ إِلَى جَهَالَاتِهِمْ جَهَالَةً شَرًّا مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا مِنْ عَدَمِ الْبَصِيرَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حَالَةِ الْأُمَّةِ مِنْ بِدَايَتِهَا إِلَى مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَرَفَتِ الْأُمَّةُ نَفْسَهَا لَعَرَفَتْ مَاضِيَهَا كَمَا تَعْرِفُ حَاضِرَهَا، وَلَكِنَّ جَهْلَهَا بِنَفْسِهَا وَعَدَمَ قِرَاءَةِ مَاضِيهَا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهَا فِيمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ. فَهِيَ لَا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُخِذَتْ وَلَا كَيْفَ سَقَطَتْ بَعْدَ مَا ارْتَفَعَتْ. أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّهَا ارْتَفَعَتْ بِالدِّينِ وَسَقَطَتْ بِتَرْكِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِالسَّبَبِ، وَأَفْضَى بِهَا الْجَهْلُ إِلَى أَنْ صَارَتْ تَجْعَلُ عِلَّةَ الرُّقِيِّ وَالِارْتِفَاعِ، هِيَ عَيْنُ الْعِلَّةِ لِلسُّقُوطِ وَالِانْحِطَاطِ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدَانَةُ أَفْرَادِنَا وَحُكُومَاتِنَا مِنَ الْأَجَانِبِ بِالرِّبَا ; فَإِنَّهَا أَضَاعَتْ ثَرْوَتَنَا وَمُلْكَنَا، وَكَانَ الدِّينُ -
لَوِ اتَّبَعْنَاهُ - عَاصِمًا مِنْهَا، فَنَحْنُ نَنْسَى مِثْلَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ الْكُبْرَى لِلدِّينِ فِي الْمَوْضُوعِ نَفْسَهُ، وَنَذْكُرُ مِنْ سَيِّئَاتِ الدِّينِ أَنَّهُ حَرَّمَ الرِّبَا وَلَوْ لَمْ يُحَرِّمْهُ لَجَازَ أَنْ يَكْسَبَ بَعْضُ أَغْنِيَائِنَا أَكْثَرَ مِمَّا يَكْسِبُونَ الْآنَ. وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: إِنَّ أَثَرَ الرِّبَا فِينَا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُزِيلَهُ بِمِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ، وَلَوْ أَنَّنَا حَافَظْنَا عَلَى أَمْرِ الدِّينِ فِيهِ لَكُنَّا بَقَيْنَا لِأَنْفُسِنَا، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: (بَقَيْنَا لِأَنْفُسِنَا).


الصفحة التالية
Icon