وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا إِلَخْ مَا مِثَالُهُ: مَسْأَلَةُ الرِّبَا مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ اتَّفَقَتْ فِيهَا الْأَدْيَانُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَمُ: فَالْيَهُودُ كَانُوا يُرَابُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ. وَالنَّصَارَى يُرَابِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُرَابُونَ سَائِرَ النَّاسِ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حَفِظُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ زَمَنًا طَوِيلًا. ثُمَّ قَلَّدُوا غَيْرَهُمْ. وَمُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ فَشَتِ الْمُرَابَاةُ بَيْنَهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَقْطَارِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا بِالْحِيلَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا شَرْعِيَّةً، وَقَدْ أَبَاحَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِثْمَارِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَطَالِبِ الْعِلْمِ الْمُنْقَطِعِ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ السُّبْحَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ أَنْ يَتَّفِقَ الدَّائِنُ مَعَ الْمَدِينِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِائَةً إِلَى سَنَةٍ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ مَثَلًا فَيُعْطِيهِ الْمِائَةَ نَقْدًا وَيَبِيعُهُ سُبْحَةً بِعَشَرَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيَشْتَرِيهَا ثُمَّ يَهْدِيهَا إِلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُونَ قَلِيلِينَ جِدًّا، وَلَكِنِ الَّذِينَ يُؤَكِّلُونَهُ غَيْرَهُمْ كَثِيرُونَ جِدًّا، حَتَّى لَا تَكَادَ تَجِدُ مُتَمَوِّلًا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ سَالِمًا مِنَ الِاسْتِدَانَةِ بِالرِّبَا إِلَّا قَلِيلًا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ تَقْلِيدُ حُكَّامِهِمْ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ. بَلْ كَثِيرًا مَا كَانَ حُكَّامُ هَذِهِ الْبِلَادِ يُلْزِمُونَ الرَّعِيَّةَ بِهَا إِلْزَامًا لِأَدَاءِ مَا يَفْرِضُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّرَائِبِ وَالْمُصَادَرَاتِ، وَمِنْ هُنَا نَرَى أَنَّ الْأَدْيَانَ لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَاوِمَ مَيْلَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ إِلَى أَكْلِ الرِّبَا. حَتَّى كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ يَضْطَرُّونَ إِلَيْهَا، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَيْهَا أَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الْإِنْسَانُ السِّلْعَةَ الَّتِي ثَمَنُهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ نَقْدًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا نَسِيئَةً يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْتَاجَ الْعَشَرَةَ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ بَعْدَ سَنَةٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ; لِأَنَّ السَّبَبَ فِي كُلٍّ مِنَ الزِّيَادَتَيْنِ الْأَجَلُ. هَكَذَا يَحْتَجُّ النَّاسُ فِي أَنْفُسِهِمْ كَمَا تَحْتَجُّ الْحُكُومَاتُ بِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَأْخُذِ الْمَالَ بِالرِّبَا لَاضْطَرَّتْ إِلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحِهَا أَوْ خَرَابِ أَرْضِهَا.
وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ أَجَابَ عَنْ دَعْوَى مُمَاثَلَةِ الْبَيْعِ لِلرِّبَا بِجَوَابٍ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ أَجْوِبَةِ الْخُطَبَاءِ الْمُؤَثِّرِينَ، وَلَا عَلَى طَرِيقَةِ أَقْيِسَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى سُنَّةِ هِدَايَةِ
الدِّينِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَقَدْ جَعَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ قَبِيلِ إِبْطَالِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، أَيْ إِنَّكُمْ تَقِيسُونَ فِي الدِّينِ وَاللهُ - تَعَالَى - لَا يُجِيزُ هَذَا الْقِيَاسَ، وَلَكِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْقُرْآنِ مُقَارَعَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ يَفْهَمُونَ مَعْنَى الْحُجَّةِ فِي رَدِّ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ الْقَوْلِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسَلَّمَةِ مَا هُوَ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ لَا يَفْهَمُونَ الْآيَاتِ إِلَّا بِهِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا لِتَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى آرَائِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ فِيهِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ أَنَّ زَعْمَهُمْ مُسَاوَاةَ الرِّبَا لِلْبَيْعِ فِي مَصْلَحَةِ التَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أُبِيحَ لِلنَّاسِ أَنْ يَكُونُوا فِي تَعَامُلِهِمْ كَالذِّئَابِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَظِرُ الْفُرْصَةَ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنِ افْتِرَاسِ الْآخَرِ وَأَكْلِهِ، وَلَكِنْ هَاهُنَا إِلَهٌ رَحِيمٌ يَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُرَبِّيهِمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الرِّبَا الَّذِي هُوَ اسْتِغْلَالُ ضَرُورَةِ إِخْوَانِهِمْ، وَأَحَلَّ الْبَيْعَ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ الرِّبْحُ فِيهِ بِأَكْلِ


الصفحة التالية
Icon