الْغَنِيِّ الْوَاجِدِ الْفَقِيرَ الْفَاقِدَ. فَهَذَا وَجْهٌ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ يَقْتَضِي فَسَادَ الْقِيَاسِ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ طَرِيقَ تَعَامُلِ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ أَنْ يَكُونَ اسْتِفَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِ بِعَمَلٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حَقًّا عَلَى آخَرَ بِغَيْرِ عَمَلٍ ; لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا مُقَابِلَ لَهُ، وَبِهَذِهِ السُّنَّةِ أَحَلَّ الْبَيْعَ لِأَنَّ فِيهِ عِوَضًا يُقَابِلُ عِوَضًا، وَحَرَّمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا مُقَابِلَ لَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ قِيَاسَكُمْ فَاسِدٌ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا يَقْتَضِي حِلَّهُ، وَفِي الرِّبَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ يُلَاحَظُ فِيهِ دَائِمًا انْتِفَاعُ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ انْتِفَاعًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ مَنْ يَشْتَرِي قَمْحًا مَثَلًا فَإِنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِيَأْكُلَهُ أَوْ لِيَبْذُرَهُ أَوْ لِيَبِيعَهُ وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِهِ انْتِفَاعًا حَقِيقِيًّا (وَأَقُولُ: وَالثَّمَنُ فِي هَذَا مُقَابِلٌ لِلْمَبِيعِ مُقَابَلَةً مُرْضِيَةً لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِمَا) وَأَمَّا الرِّبَا وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ وَالْمِثْلِيَّاتِ وَأَخْذِهَا مُضَاعَفَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ زِيَادَةُ رَأْسِ الْمَالِ لَا مُقَابِلَ لَهُ مِنْ عَيْنٍ وَلَا عَمَلٍ (أَقُولُ: وَهِيَ لَا تُعْطَى بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، بَلْ بِالْكُرْهِ وَالِاضْطِرَارِ).
وَثَمَّ وَجْهٌ ثَالِثٌ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْ دُونِ الْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَيْنِ إِنَّمَا وُضِعَا
لِيَكُونَا مِيزَانًا لِتَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ. فَإِذَا تَحَوَّلَ هَذَا وَصَارَ النَّقْدُ مَقْصُودًا بِالِاسْتِغْلَالِ فَإِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى انْتِزَاعِ الثَّرْوَةِ مِنْ أَيْدِي أَكْثَرِ النَّاسِ وَحَصْرِهَا فِي أَيْدِي الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ قَاصِرَةً عَلَى اسْتِغْلَالِ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَيَنْمُو الْمَالُ وَيَرْبُو عِنْدَهُمْ وَيُخَزَّنُ فِي الصَّنَادِيقِ وَالْبُيُوتِ الْمَالِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبُنُوكِ، وَيُبْخَسُ الْعَامِلُونَ قِيَمَ أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ مُعْظَمُهُ مِنَ الْمَالِ نَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَهْلَكُ الْفُقَرَاءُ. وَلَوْ وَقَفَ النَّاسُ فِي اسْتِغْلَالِ الْمَالِ عِنْدَ حَدِّ الضَّرُورَةِ لَمَا كَانَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْمَضَرَّاتِ، وَلَكِنَّ أَهْوَاءَ النَّاسِ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ تَقِفُ عِنْدَهُ بِنَفْسِهَا (أَيْ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْوَازِعِ الَّذِي يُوقِفُهَا بِالْإِقْنَاعِ أَوِ الْإِلْزَامِ) لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا، وَهُوَ لَا يُشَرِّعُ لِلنَّاسِ الْأَحْكَامَ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ كَأَصْحَابِ الْقَوَانِينِ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ، وَأَمَّا وَاضِعُو الْقَوَانِينِ فَإِنَّهُمْ يَضَعُونَ لِلنَّاسِ الْأَحْكَامَ بِحَسَبِ حَالِهِمُ الْحَاضِرَةِ الَّتِي يَرَوْنَهَا مُوَافِقَةً لِمَا يُسَمُّونَهُ الرَّأْيَ الْعَامَّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي عَوَاقِبِهَا، وَلَا فِي أَثَرِهَا فِي تَرْبِيَةِ الْفَضَائِلِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَإِنَّنَا نَرَى الْبِلَادَ الَّتِي أَحَلَّتْ قَوَانِينُهَا الرِّبَا قَدْ عَفَتْ فِيهَا رُسُومُ الدِّينِ، وَقَلَّ فِيهَا التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ، وَحَلَّتِ الْقَسْوَةُ مَحَلَّ الرَّحْمَةِ حَتَّى إِنِ الْفَقِيرَ فِيهَا يَمُوتُ جُوعًا وَلَا يَجِدُ مَنْ يَجُودُ عَلَيْهِ بِمَا يَسُدُّ رَمَقَهُ، فَمُنِيَتْ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِمَصَائِبَ أَعْظَمُهَا مَا يُسَمُّونَهُ الْمَسْأَلَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُأَلِّبُ الْفَعَلَةَ وَالْعُمَّالَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ وَاعْتِصَابِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِتَرْكِ الْعَمَلِ وَتَعْطِيلِ الْمَعَامِلِ وَالْمَصَانِعِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهَا لَا يُقَدِّرُونَ عَمَلَهُمْ قَدْرَهُ، بَلْ يُعْطُونَهُمْ أَقَلَّ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ انْقِلَابًا كَبِيرًا فِي الْعَالَمِ ; وَلِذَلِكَ


الصفحة التالية
Icon