لَهُ هَذَا انْكَشَفَ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقِيلَ لَهُ: مَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَكَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ.
وَكُلُّ مَنْ عَامَلَ مُعَامَلَةَ الرِّبَا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ وَظَلَمَ ; لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِغَيْرِهِمَا لَا لِنَفْسِهِمَا، إِذْ لَا غَرَضَ فِي عَيْنِهِمَا فَإِذَا اتَّجَرَ فِي عَيْنِهِمَا فَقَدِ اتَّخَذَهُمَا مَقْصُودًا عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ ; إِذْ طَلَبُ النَّقْدِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ظُلْمٌ، وَمَنْ مَعَهُ ثَوْبٌ وَلَا نَقْدَ مَعَهُ فَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ طَعَامًا وَدَابَّةً، إِذْ لَا يُبَاعُ الطَّعَامُ وَالدَّابَّةُ بِالثَّوْبِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي بَيْعِهِ بِنَقْدٍ آخَرَ لِيَحْصُلَ النَّقْدُ فَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ فَإِنَّهُمَا وَسِيلَتَانِ إِلَى الْغَيْرِ لَا غَرَضَ فِي أَعْيَانِهِمَا، وَمَوْقِعُهُمَا فِي الْأَمْوَالِ كَمَوْقِعِ الْحَرْفِ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ الْحَرْفَ هُوَ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى فِي غَيْرِهِ، وَكَمَوْقِعِ الْمِرْآةِ مِنَ الْأَلْوَانِ، فَأَمَّا مَنْ مَعَهُ نَقْدٌ فَلَوْ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ فَيَتَّخِذَ التَّعَامُلَ عَلَى النَّقْدِ غَايَةَ عَمَلِهِ لَبَقِيَ النَّقْدُ مُتَقَيِّدًا عِنْدَهُ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ الْمَكْنُوزُ. وَتَقْيِيدُ الْحَاكِمِ وَالْبَرِيدِ الْمُوصِلِ إِلَى الْغَيْرِ ظُلْمٌ، كَمَا أَنَّ حَبْسَهُ ظُلْمٌ، فَلَا مَعْنَى لِبَيْعِ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ إِلَّا اتِّخَاذُ النَّقْدِ مَقْصُودًا لِلِادِّخَارِ وَهُوَ ظُلْمٌ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَيَلِيهِ حُكْمُ تَحْرِيمِ أَنْوَاعِ الرِّبَا كُلِّهَا.
مَنْ تَدَبَّرَ مَا قَالَهُ الْإِمَامَانِ عَلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا هُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُوَافِقُ لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ الْمُنْطَبِقُ عَلَى قَوَاعِدِ الْفَلْسَفَةِ، وَأَنَّ إِبَاحَتَهُ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ لِلْأَخْلَاقِ وَشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، زَادَتْ فِي أَطْمَاعِ النَّاسِ وَجَعَلَتْهُمْ مَادِّيِّينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْمَالِ وَكَادَتْ تُحْصَرُ ثَرْوَةُ الْبَشَرِ فِي أَفْرَادٍ مِنْهُمْ وَتَجْعَلُ بَقِيَّةَ النَّاسِ
عَالَةً عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْمَفْتُونُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْمَدَنِيَّةِ يُنْكِرُونَ مِنْ دِينِهِمْ تَحْرِيمَ الرِّبَا بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا عَقْلٍ فَسَيَجِيءُ يَوْمٌ يُقِرُّ فِيهِ الْمَفْتُونُونَ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ هُوَ النِّظَامُ الَّذِي لَا تَتِمُّ سَعَادَةُ الْبَشَرِ فِي دُنْيَاهُمْ - فَضْلًا عَنْ آخِرَتِهِمْ - إِلَّا بِهِ، يَوْمَ يَفُوزُ الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي الْمَمَالِكِ الْأُورُبِّيَّةِ وَيَهْدِمُونَ أَكْثَرَ دَعَائِمِ هَذِهِ الْأَثَرَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيُرْغِمُونَ أُنُوفَ الْمُحْتَكِرِينَ لِلْأَمْوَالِ وَيُلْزِمُونَهُمْ بِرِعَايَةِ حُقُوقِ الْمَسَاكِينِ وَالْعُمَّالِ.
(الرِّبَا الْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالرِّبَا الْمُحَرَّمُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ) التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا ثَبَتَ بِرِوَايَاتِ الْآحَادِ وَأَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ ضَرُورِيَّةٌ، فَإِنَّ مَنْ يَجْحَدْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَمَنْ يَجْحَدْ غَيْرَهُ يُنْظَرْ فِي عُذْرِهِ، فَمَا مِنْ إِمَامٍ مُجْتَهِدٍ إِلَّا وَقَدْ قَالَ أَقْوَالًا مُخَالِفَةً لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، لِأَسْبَابٍ يُعْذَرُ بِهَا وَتَبِعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُعِدُّ أَحَدٌ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ خُرُوجًا عَنِ الدِّينِ، حَتَّى مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّقْلِيدِ، فَمَا بَالُكَ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْأَقْوَالِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا أَقْيِسَتُهُمْ.


الصفحة التالية
Icon