وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ
قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَالْخِلَافُ فِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِ قَلِيلٌ ; كَأَرْضِنِي بِهِ مِنَ الْإِرْضَاءِ، وَرَضِّنِي مِنَ التَّرْضِيَةِ.
لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ إِشَارَةٌ مَا إِلَى مَعْنَى يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ وَلَا التَّفَاؤُلِ، بَلْ هِيَ أَمْرٌ بِعِبَادَةٍ وَدُعَاءٍ عِنْدَ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَنْسَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ - تَعَالَى - عِنْدَ اهْتِمَامِهِ بِالشَّأْنِ مِنْ شُئوُنِ الدُّنْيَا، وَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ فِقْهِ الِاسْتِخَارَةِ وَحِكْمَتِهَا فِي بَدْءِ الْكَلَامِ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اشْتُهِرَ مِنْ مَعْنَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا صَحِيحًا فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ، فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخِيَرَةَ فِيهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ: إِنَّهُ يَفْعَلُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ مَا يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ، لَكِنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى مَا كَانَ لَهُ فِيهِ هَوًى قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ مَا عَزَى الْحَدِيثَ إِلَى ابْنِ السُّنِّيِّ: لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَمَدَ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ وَاهٍ جِدًّا. اهـ. أَقُولُ: وَآفَتُهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْبَرَاءِ، ضَعَّفُوهُ جِدًّا، بَلْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِيهِ: شَيْخٌ كَانَ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيُحَدِّثُ عَنِ الثِّقَاتِ بِالْمَوْضُوعَاتِ، لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَدْحِ فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ فِسْقٌ. ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ هُنَا رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ كُلُّ مُحَرَّمٍ مِنْهَا خُرُوجٌ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، وَرَغْبَةٌ عَنْ شَرْعِهِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ.
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. إِنَّنِي أَتَنَسَّمُ مِنْ وَضْعِ هَذَا الْخَبَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَرْتِيبِ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْهِ أَنَّ حِكْمَةَ الِاكْتِفَاءِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِذِكْرِ مُحْرِمَاتِ الطَّعَامِ الْأَرْبَعَةِ الْوَارِدَةِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَتَرْكِ تَفْصِيلِ مَا يَنْدَرِجُ فِيهَا مِمَّا كَرِهَهُ الْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ سَائِرِ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ - هُوَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهَا، كَمَا كَانَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ; لِئَلَّا يَنْفِرَ الْعَرَبُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَيَرَوْنَ فِيهِ حَرَجًا عَلَيْهِمْ
يَرْجُونَ بِهِ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ أَكْثَرُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. جَاءَ هَذَا التَّفْصِيلُ لِلْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْسِعَةِ اللهِ عَلَى أَهْلِهِ وَإِعْزَازِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ مِنْ نُفُورِ أَهْلِهِ مِنْهُ، وَفِرَارِهِمْ مِنْ تَكَالِيفِهِ، وَزَالَ طَمَعُهُمْ فِي الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةِ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَجْدَرَ بِأَلَّا يُبَالُوا بِمُدَارَاتِهِمْ، وَلَا يَهْتَمُّوا بِمَا يُنَفِّرُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَلَّا يَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ


الصفحة التالية
Icon