بِالْيَوْمِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَالزَّمَنِ، كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ بِالْأَمْسِ طِفْلًا أَوْ غُلَامًا، وَقَدْ صِرْتُ الْيَوْمَ رَجُلًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: يَوْمُ عَرَفَةَ مِنْ عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَا بَقِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَبْطَلَ بِهَا الْإِسْلَامُ بَقَايَا مَهَانَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَخَبَائِثِهَا وَأَوْهَامِهَا، وَالْمُبَشِّرَةِ بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ظُهُورًا تَامًّا لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي زَوَالِهِ، وَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مُدَارَاتِهِمْ أَوِ الْخَوْفِ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، وَسَتَأْتِي الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ أَنْفُسَهُمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ زَوَالِ دِينِهِمْ. وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ وَقَدْ بَدَّلَهُمْ بِضَعْفِهِمْ قُوَّةً وَبِخَوْفِهِمْ أَمْنًا وَبِفَقْرِهِمْ غِنًى، أَلَّا يَخْشَوْا غَيْرَ الَّذِي جَرَّبُوا فَضْلَهُ عَلَيْهِ، وَإِعْزَازَهُ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا نَبْدَأُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ حَمْدِ اللهِ وَشُكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، بِذِكْرِ صَفْوَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنْ مَعْنَاهَا وَزَمَنِ نُزُولِهَا وَمَكَانِهِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يَقُولُ: يَئِسَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَبَدًا فَلَا تَخْشَوْهُمْ: فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَاخْشَوْنِ: فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَ - أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقُولُ: حَلَالَكُمْ وَحَرَامَكُمْ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ: مِنَّتِي فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ وَرَضِيتُ يَقُولُ: اخْتَرْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. مَكَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ - أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -
قَالَ: أَخْبَرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ فَلَا يَنْقُصُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرِ الْيَهُودِ أُنْزِلَتْ ; لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالُوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَنَا عِيدًا وَالْيَوْمَ الثَّانِيَ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي يَوْمُ النَّحْرِ، فَأَكْمَلَ اللهُ لَنَا الْأَمْرَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي انْتِقَاصٍ.


الصفحة التالية
Icon