مِنْ قَوْلِهَا أَنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَلَا عَلَيَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَآيَةَ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (٢: ٢٢١) انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَظَاهِرُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَحَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مَعَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ تَأَوَّلَ آيَةَ الْبَقَرَةِ، فَهُوَ إِذَا صَحَّ اجْتِهَادٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابِيِّ يُعْمَلُ بِهِ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ، بَلْ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ مُطْلَقًا، وَمَنْ قَالَ بِهِ اشْتَرَطَ عَدَمَ النَّصِّ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ تَرْجِيحًا بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمْ وَالِدُهُ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسْلِمُ يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَلَا يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَةَ ".
وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ (٦٠: ١٠) وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ اللَّوَاتِي أَسْلَمَ أَزْوَاجُهُنَّ وَبَقِينَ عَلَى شِرْكِهِنَّ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْجَاهِلِينَ بِأَخْلَاقِ الْبَشَرِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِلْظَةَ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الدِّينُ، وَتَعْلُو كَلِمَتُهُ، وَتَنْتَشِرُ دَعْوَتُهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ سُوءَ الْمُعَامَلَةِ هُوَ أَعْظَمُ الْمُنَفِّرَاتِ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (٣: ١٥٩) وَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِتِلْكَ السُّرْعَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ إِلَّا بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ أَهْلِهِ لِمَنْ يُعَاشِرُونَهُمْ، وَيَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَوْلَا تَرْكُ الْخَلَفِ لِسُنَّةِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَحَدٌ لَمْ يَدْخُلِ الْإِسْلَامَ بِاخْتِيَارِهِ، بَلْ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ.
نَقُولُ هَذَا تَمْهِيدًا لِبَيَانِ حِكْمَةِ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَا تَحَرُّجٍ مِنْ تَذْكِيَتِهِمْ، وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ غَرَضِ الشَّارِعِ بِذَلِكَ تَأَلُّفِهِمْ لِيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِمْ، فَقَدْ أَكْمَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِحَسْبِ سُنَّتِهِ فِي التَّرَقِّي الْبَشَرِيِّ وَالتَّدْرِيجِيِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى كَمَالِهِ، وَهَذَا مِنْ مُنَاسَبَاتِ جَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الْآيَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ (رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) :
" الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْعِنَادِ، فَقَالَ لَهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢: ١١١) وَعَنَّفَ الْمُنَازِعِينَ إِلَى الشِّقَاقِ عَلَى مَا زَعْزَعُوا مِنْ أُصُولِ الْيَقِينِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَغْيٌ وَخُرُوجٌ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَلَمْ يَقِفْ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّ الْمَوْعِظَةِ بِالْكَلَامِ وَالنَّصِيحَةِ بِالْبَيَانِ، بَلْ شَرَعَ شَرِيعَةَ الْوِفَاقِ وَقَرَّرَهَا فِي الْعَمَلِ، فَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَوَّغَ