تَخْيِيلٌ لِمَا لَيْسَ وَاقِعًا، وَأَنَّهُ كَيْدٌ وَمَكْرٌ، وَأَنَّهُ يُتَعَلَّمُ تَعَلُّمًا، وَالْخَوَارِقُ لَا تَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ، وَقَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ كَلِيمِهِ مُوسَى: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ (١٠: ٨١) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) (٨: ٨) فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ بَاطِلًا لَا حَقًّا. (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ) اقْتَرَحَ كُفَّارُ مَكَّةَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الرَّسُولِ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا مُؤَيِّدًا لَهُ أَمَامَهُمْ، إِذْ يَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، كَمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ (٢٥: ٧) وَمَا هُنَا وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا هُنَالِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: " مَلَكٌ فَيَكُونَ نَذِيرًا " اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ، بَلِ اقْتَرَحُوا أَيْضًا أَنْ يَنْزِلَ الْمَلَكُ عَلَيْهِمْ بِالرِّسَالَةِ مِنْ رَبِّهِمْ، بَلْ طَلَبُوا أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، طَلَبُوا أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ وَيُخَاطِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يُرِيدُ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ. كَمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَيْضًا (٢٥: ٢١) وَقَدْ قَالَ اللهُ فِي هَؤُلَاءِ: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) (٢٥: ٢١) نَعَمْ إِنَّ هَذَا مُنْتَهَى الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُتُوِّ، لِأَنَّهُ تَسَامٍ وَاسْتِشْرَافٌ مِنْ أَضَلِّ الْبَشَرِ وَأَسْفَلِهِمْ رُوحًا. إِلَى مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَعْلَاهُمْ مَقَامًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا اقْتِرَاحُهُمْ نُزُولَ الْمَلَكِ عَلَى الرَّسُولِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ضِدِّ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ طَلَبُهُمْ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ
أَرْقَى الْبَشَرِ عَقْلًا وَأَخْلَاقًا وَآدَابًا وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يَكُونُوا رُسُلًا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ; لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ هَذِهِ شُبْهَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ وَالْمُتَأَخِّرِينَ: قَالَ تَعَالَى فِي هُودٍ وَقَوْمِهِ: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (٢٣: ٣٣، ٣٤) وَحَكَى تَعَالَى مِثْلَ هَذَا عَنْ غَيْرِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ) وَفِي غَيْرِهَا.
وَمِثْلُ هَذَا التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ فِي حُكْمِ الْبَشَرِ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا مَعْهُودٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، فَهُمْ يَرْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ تَارَةً إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ قَدْرِهَا بِمَا لَا يُحْصَى مِنَ الدَّرَجَاتِ وَالْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ السَّحِيقَةِ، وَيَهْبِطُونَ بِهَا تَارَةً إِلَى مَا هُوَ دُونَ اسْتِعْدَادِهَا بِمَا لَا يُعَدُّ مِنَ الدَّرَكَاتِ الْعَمِيقَةِ، يَتَسَامَوْنَ تَارَةً لِلْبَحْثِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْأَزَلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَ أَوَّلَهُ، إِلَى الْأَبَدِ الَّذِي لَا يُدْرِكُونَ نِهَايَتَهُ، وَلِلْكَلَامِ فِي كُنْهِ الْخَالِقِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ عَنِ الْوُجُوبِ الْوَاجِبِ. وَيَعْتَرِفُونَ تَارَةً بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ أَنْفُسِهِمْ وَالْقُصُورِ عَنِ الْإِحَالَةِ بِأَنْوَاعِ الْجِنَّةِ الَّتِي تَعِيشُ فِي بِنْيَتِهِمْ وَتُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ مَوَادِّ مَعِيشَتِهِمْ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ وَأَشْرِبَتِهِمْ، يَقُولُونَ تَارَةً إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ، وَمِصْدَاقُ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ، وَيَقُولُونَ تَارَةً إِنَّهُ مَظْهَرُ الظُّلْمِ وَالْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَإِنَّمَا يُعَظِّمُ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ أَوْ جِنْسَهُ فِي


الصفحة التالية
Icon