يأْتوا بسورة مثله إن كانوا صادقين في أن محمدا افتراه من عنده، فعجزوا أمام هذا التحدى مع أنهم أئمة البلاغة والفصاحة، فإذا عجزوا هُمْ فغيرهم أشد عجزا، وحيث كان محمد - ﷺ - مثلهم، وكان، فإنه يستحيل أن يكون القرآن- الذي فاق قدرة البشر من تأْليفه هو، فوجب أن يكرن من عند الله، أنزله الله عليه تأْييدا له، كما أيد المرسلين قبله بالمعجزات. واختصى النبي صلى الله عليه وسم بمعجزة القرآن، لأنه هو المناسب لإعجاز العرب البلغاء الفصحاء، ولأن العالم شَبَّ عن الطرق، ولأن رسالته باقية إلى آخر الزمان، وهذا يقتضى أن تكون شواهد معجزته باقية معها مقارنة لها في جميع الاجيال، فلذا كانت معجزته القرآن الكريم، الذي تقارنه شواهد إعجازه دائمًا.
أما سائر المرسلين، فإن رسالة كل منهم كانت موقوتة بين رسولين، ومحصورة في محيط ضيق، فلهذا كانت معجزة كل منهم، مقصورة على زمان معين ومكان معين، وبين عدد محدود من الشهور.
وإِعجاز القرآن كما يتجلى في بلاغته وفصاحته، يتجلى أيضًا فيما تضمنه من التشريعات الفائقة، والقصص الصادقة للأمم السابقة، والإشارة إلى الكونيات التي كشف العلم بعضها، ولا يزال جاهدا في كشف سواه، وبما اشتمل عليه من قواعد السلوك والأخلاق.
وفي ذلك يقول. النبي - ﷺ - "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أُعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه الشيخان عن أبى هريرة، واللفظ لمسلم.
وله- صلى الله عليه وسلم- من المعجزات غير القرآن، ما يفوق الحصر، فلله الحمد
والمنة. وقد تحداهم الله هذا التحدى في مواضع عديدة من القرآن، مكيِّه ومَدَنيِّه،
فمن مَدنيهِ هذه الآية، ومن مَكِّيِّهِ قوله تعالى فى سورة الإِسراء: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (١)
وسبب تحديهم بهذه الآية وأمثالها: أنهم قالوا: "لَوْ نَشَاءُ لَقُلنا مِثلَ هَذَا (٢) " ولمَّا
نزل القرآن منجما حسَب الحوادث، لم يعجبهم هذا، وقالوا ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ (٣) فجعلوا نزوله منجمًا حسب الوقائع، دليلًا على أنه ليس من عند الله.
(٢) الأنفال: ٣١
(٣) الفرقان: ٣٢