هذا عود إلى قصدة السيدة مريم عليها السلام - بعد أَنْ توسطتها قصة ولادة يحيى لزكريا، بعد أن بلغ من الكبر عتيًّا، من زوجته المسنة العاقر - للتشويق إلى باقي قصتها، ولتقرير ما فيها من عجائب صنع الله، المخالفة للنواميس المألوفة، ولتقرير اصطفاء مريم.
والملائكة هنا، كالملائكة في قصة زكريا، يجوز أن يكونوا جماعة، أو أن يكون المراد منهم الجنس الصادق بواحد. والمقصود به جبريل، لأنه هو الذي يبلغ رسالات الله إلى المصطفين من خلقه عادة.
والمعنى: واذكر يا محمد، من شواهد اصطفاه الله لأُولئك الكرام، وقت قول الملائكة: يا مريم، إن الله اختارك لخدمة بيته، ولم يكن يخدمه قبلك إلا الرجال. وطهرك من الأدناس: حسِّية كانت أو خُلُقية أو اعتقادية. واختارك على نساء العالمين، ليهب لك عيسى من غير أب، فكنت فريدة في ذلك بين نساء العالمين، لطهرك وفضلك!
وظاهر النص: يقتضي أن كلام الملائكة لها، كان مشافهة. ويجوز أن يكون إلهامًا.
٤٣ - ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾:
المعنى: وقالت الملائكة لمريم - بعد أن أخبروها بعلوِّ درجاتها وكمال قُرْبها إلى الله - يا مريم: دومي على طاعة ربك الذي رباك بنعمه، واخضعي له، وصَلِّي مع المصلين. وقد أمرها الله بذلك، حتى لا يحدث لها فتورٌ أو غفلة، بعد ما علمت مكانتها عند الله تعالى.
وإذا كان الله يذكِّر مريم بذلك - وهي من جلالة الشأن على ما وصف الله - فالأجدر بمن هم دونها: أن يعلموا أن الله تعالى لا يغفل عن حقوقه لديهم؛ ليشمروا عن ساعد الجد، حتى لا يفوتهم ركب النجاة.
٤٤ - ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ... ﴾ الآية.
المعنى: ذلك الذي تقدم من أخبار الغيب، ذات الوقائع الدقيقة المفصلة، نعلمك بها عن طريق الوحي. وقد سبقت عهدك بقرون عديدة: ما كنت تعلمها أنت ولا قومك. ولولاه لما وصل إلى علمك.
وصدق الله إذ يقول: "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (١).
كما أنه لم يُعرف عنك مجالسة أهل الكتاب حتى تعرفه منهم.