حتى يكتمل أُنسه وفرحه بنزول، فقد روى البخاري أَن النبي ﷺ قال لجبريل: "ما يمنعك أَن تزورنا أَكثر ممَّا تزورنا"؟ فزلت "وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ" (١).
قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره: هذه الواقعة تدل على أَن القرآن من عند الله؛ إِذ لو كان من عنده لما امتنع.
٤ - (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى):
لَمَّا نزل قوله تعالى: "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" حصل لرسول اله ﷺ بهذا تشريف عظيم، فكأَنه -عليه الصلاة والسلام- استعظم هذا التشريف، فقيل له: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى) أَي: إِن هذا التشريف وإِن كان عظيمًا إِلاَّ أَن مَا لَك عندنا في الآخرة خير منه وأَعظم، أَو أَن المعنى: وللأَحوال الآتية خير لك من الماضية، كأَنه -تعالى - وعد بأَنه سيزيده كل يوم عزًّا إلى عز، ومنصبًا إلى منصب، أَو أَن خيرات الدنيا مشوبة بالآفات والنقص والانقطاع، ولذات الآخرة كثيرة خالصة كاملة دائمة.
٥ - (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى):
هذا تَرَقٍّ وسمو بقدر رسول الله ﷺ ورفع لمنزلته، فبعد أن أبان عز وجل أنه في محل الإِعزار والتكريم، وأَنه لم يتركه ولم يبغضه بعد أَن أَحبه واجتباه، وأن الآخرة تكون خيرًا له وأَفضل ممَّا أَكرم به في الدنيا، بعد ذلك سوف يكون الإرضاء التام، وتحقيق ما تصبو إِليه نفس الرسول ويرجوه، وذلك بأَن يعطيه ربّه كل ما يرجوه منه -سبحانه- حتى يكون ﷺ راضيًا وتلك المنزلة هي الشفاعة في جميع المؤمنين.
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أَن النبي ﷺ تلا قول الله تعالى في إِبراهيم: "فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (٢)، وقول عيسى: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ" (٣) فرفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي" وبكى، فقال الله تعالى لجبريل: "اذْهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ" فأَتى جبريلُ
(٢) سورة إبراهيم، من الآية: ٣٦.
(٣) سورة المائدة، من الآية: ١١٨.