ما تعبد، ونشترك نحن وأَنت في أَمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصحَّ من الذي أنت عليه كنتَ أخذتَ منه حظًّا، وإن كان الذي أنت عليه أصَحَّ من الذي نحن عليه كما قد أَخذنا من حظًّا، فأنزل الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) إلى آخره حتى انقضت السورة، وفي رواية أن رهطًا من عتاة قريش قالوا له صلى الله عليه وسلم: هلم فاتبع ديننا، ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال - عليه الصلاة والسلام-: "مَعَاذَ اللهِ أَنْ أُشْرِكَ بِاللهِ سُبْحَانَهُ غَيْرَهُ" فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت، فغدا رسول الله ﷺ إلى المسجد الحرام، وفيه الملأُ من قريش، فقام عليه الصلاة والسلام فقرأَها عليهم، فَأَيسُوا، ولعل نداءَهم بـ (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) للمبالغة في طلب إقبالهم؛ لئلا يفوتهم شيءٌ ممَّا يلقى عليهم، وفي ندائه -عليه الصلاة والسلام- بذلك في ناديهم ومكان قوتهم دليل على عدم اكتراثه -عليه الصلاة والسلام- بهم؛ إذ المعنى: قل يا محمد للكافرين: يا أيها الكافرون.
٢ - ٥ - (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)):
الظاهر أن فيه تكرارًا للتأْكيد، فالجملة الثالثة المنفية (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ) على ما في البحر تأْكيد للأُولى: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) على وجه أبلغ؛ لا سمية المؤكّدة، والرابعة: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) توكيد للثانية: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) وهو الذي اختاره الطيبي، وذهب إليه الفراءُ، وقال: إن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتهم تكرير الكلام للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى بلى والمتنع: لا لا، وعليه قوله تعالى: "كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) " (١) وهو كثير نظمًا ونشرًا، وفائدة التوكيد هنا قطع أطماع الكافرين، وتحقيق أَنهم باقون على الكفر أَبدًا، والرسول باق على عبادة ربه أبدًا.

(١) سورة التكاثر الآيتان: ٣، ٤.


الصفحة التالية
Icon