والمعنى: يا قوم إني لا أزعم أنى أمتاز عليكم فإننى بشر مثلكم، ولكن أخبرونى عن رأيكم فيما أعرضه عليكم: إن الله سبحانه قد هدانى إليه فآمنت به إيمانا راسخا ثابتا معتمدا على الحجة والبينة الظاهرة، وتفضل على بنعمة خصنى بها من عنده وهى الرسالة، وأمرنى بإبلاغها إليكم تفضلا منه عليكم، وقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة فخفى أمرها عليكم حين بادرتهم إلى تكذيبها دون تدبر أو تأمل، فأخبرونى ماذا أفعل لكم أنا ومن معى من المؤمنين بعد ذلك؟ أنرغمكم على العمل بشريعة الله التي رحمكم بها وأنتم لها كارهون.
وعاد نوح فذكرهم بأنهم قومه قائلًا:
٢٩ - ﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾: أَي يا قوم إننى لا أُريد منكم مالا على أَداءِ هذه الرسالة، فما أَجرى إِلا على الله وحده فما بالكم ترفضون ما دعوتكم اليه من الحق، وهذا الذي قاله نوح لقومه من الأُسس الهامة التي تقوم عليها دعوات المرسلين، وينبغى أن تكون قدوة لجميع الدعاة والمصلحين، فإِن الدعوة للإصلاح إذا تجردت عن المطامع الذاتية، تكون أَدعى للاستجابة إليها، واستمالة القلوب نحوها وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (١).
﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾: هذا جواب عما طلبوه منه من طرد الفقراءِ بقولهم: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ كأَنهم يرحون إليه بطردهم والتبرؤ منهم.
والمعنى: لست بطارد المؤمنين لفقرهم كما أردتم، فإِنهم سيلقون الله فينصفهم منى إذا ظلمتهم وأبعدتهم عني إرضاءً لكم، ولن أَغضب الله بازدرائى لهم كما تحبون وليس الأمر في شرع الله دائما على الصور والأجسام والثياب، بل مرده إلى طمأْنينة القلوب ونظافة الصدور.
وفي هذا المعنى يقول النبي - ﷺ -: "رُبَّ أشْعَث مَدْفُوع بِالأبوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّه" (٢).

(١) سورة يس: الآية ٢١
(٢) حديث شريف رواه مسلم وأحمد.


الصفحة التالية
Icon