ذلك هو شأْن القرآن الذي لم يحرك قلوب قريش ليؤمنوا به، ويكتفوا بمعجزته، مع أَنه تعالى يقول في شأْنه: "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ".
واعلم أَن لكل نبى معجزة أَيده الله بها تناسب أُمته ومدة بقائها على شريعته، واختار الله لأُمة محمد ﷺ معجزة القرآن ليكون دستورا لها وآية إِلى أن تقوم الساعة، فإِن الله تعالى جعلها الأُمة الخاتمة للرسالات، فكانت معجزةُ نبيِّها صلى الله عليه وسلم، باقيةً ببقائها، وهاديًا بهديها ما بقى الزمان. ولقد أُوتى النبي ﷺ غير القرآن معجزات كثيرة، ولكنها لم تكن للتحدى، بل لتكريمه -صلى الله عليه وسلم -، ورحمة بالمؤمنين في مواقف الشدة، ومعظمها ظهر في المدينة كإِنزال الغيث ونبع الماءِ من بين أَصابعه، وتكثير الطعام القليل.
وقليل منها ظهر بمكة كانشقاق القمر، ووصْفِه لبيت المقدس وأَحوال عير قريش صباح ليلة الإِسراءِ والمعراج ولكن الله لم يأْذن له بالتحدي بشيء من ذلك، ولم يجعل تلك الخوارق آية رسالته الحاسمة، بل جعل آيتها دستورها الباقى بقاء الزمان، وهو القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ الأَنبِيَاءِ نَبىُّ إِلَّا أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُه آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ. وإنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وحْيًا أَوْحاهُ اللهُ إِلىَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثرَهُم تَابِعًا يَوْم القِيَامَةِ"، أَخرجه البخاري في صحيحه.
(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا): أَي لو أَن قرآنا سيرت به الجبال أَو قطعت به الأَرض أَو كُلم به الوتى لكان هذا القرآن، لكنَّ هذا لم يحدث بل حدث سواه، لأَن الأَمر لله وحده يفعل ما يريد وفقا لمشيئته وحكمته، التي اقتضت أَن تكون آية النبوة في الإِسلام هي دستوره، وهو القرآن لا غيره من الخوارق، ولهذا لم يأْذن الله للرسول بأَن يتحدى بما ظهر على يده من الخوارق سواه.
(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا):
لم ينزل القرآن بلغة قريش وحدها. بل اشتمل عليها وعلى غيرها حتى يعلم العرب أَن القرآن بلغتهم جميعًا. وهذا ما عناه النبي ﷺ بنزول القرآن على سبعة أَحرف


الصفحة التالية
Icon