لإِعادة الكلام هنا تفصيلًا فيها، فمن شاء فليرجع إلى ما قلناه في تفسير قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ... ﴾ (١).
والمعنى: ثم صيرنا النطفة البيضاء خلايا عالقة بجدار الرحم أجرينا عليها التحويل من حال إِلى حال فصيرناها بهذا التحويل والتصوير مضغة - أَي: قطعة لحم صغيرة قدر ما يمضغ، فيها معالم الانسان الأولية، فصيرنا بعض هذه المضغة عظاما متطورة ممتدة في ثناياها أَثناءَ تخليقها وتصويرها، فكسونا تلك العظام لحمًا وأَحطناها به، ليتم للجنين تلك الصورة البديعة، ثم حولناه بعد تمام التكوين والتصوير وأَنشأناه مخلوقًا آخر مباينًا لخلقه الأَول، فقد أَصبح إنسانًا سويًّا جميلًا وسيمًا، بعد أن كان منيًّا ثم علقة ثم مضغة.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾:
أَي: فتعالى الله أحسن الخالقين خلقًا، وتقدس أعظم المقدرين المبدعين تقديرًا وإبداعًا حيث أنشأ هذا الجمال الإنسانى من تراب ثم من نطفة ثم من علقة فمضغة، وعُدِل عن أسلوب التكلم في نحو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا﴾ فأسند الفعل هنا إِلى لفظ الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة، وللإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبه، إِنما هو من أَحكام الأُلوهية وأثارها، وللإيذان بأن حق من سمع ما فصِّل من آثار قدرته تعالى أَو تَدَبَّره أَن يقول: "تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" إجلالًا وإعظامًا لشئونه تعالى.
وَالْخَلْق معناه في اللغة: التقدير، وهو لهذا يصح أَن يطلق على غيره تعالى، كما في قوله سبحانه: "وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ" أَي: تقدر من الطين تمثالا وتصوره كهيئة الطير، ولهذا عبر هنا بصيغة أفعل التفضيل (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
١٥، ١٦ - ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾:
ثم إنكم يا بنى الإِنسان بعد ذلك الخلق العجيب لمنتهون إلى الموت لا محالة ثم إنكم يوم القيامة تقومون من قبوركم وتبعثون منها إلى ساحة الحساب على أَعمالكم: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾: ومن كان مصيره إلى الحساب والجزاء ولابد، فعليه أنا يَتَّقيَ سوء الحساب.