٣ - ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾:
بيَّن الله في الآية السابقة أَن مرتكب جريمة الزنى إذا كان حُرًّا يجلد مائة جلدة، سواءٌ أَكان من الرجال أَم من النساءِ، وأنه لا يحل للمسلمين أَن يتساهلوا في تنفيذ هذا الحد رأْفة بالزناة، وأَن يشَهَّر بهم عند تنفيذه بأَن يشهد إِقامة الحد عليهم طائفة من المؤمنين.
وجاءَ بهذه الآية عقبها، لبيان حقارة الزانى والزانية، وأَن كليهما لا يرضى بالاستجابة إِلى فاحشته إلا مثله أَو أَخس منه، والنكاح في هذه الآية بمعنى الجماع كما صح عن ابن عباس (١).
والمعنى على هذا: الزانى لخِسَّتِهِ وقبحه، لا يطأُ سفاحًا إلا زانية تماثله في فحشه وخبثه، أَو امرأَة مشركة لا ترى فيه ما يشينها، فكلتاهما تطاوعه لفقد الوازع الدينى والخلقى لديهما، أما العفيفة المؤمنة فلا سبيل له إلى الفسق بها، لحصانتها بعفتها ودينها المتين، والزانية لخستها وفحشها لا يطؤها سفاحًا إلا زانٍ يماثلها في فحشها أو مشرك يحاكيها في خبثها، وحرم ذلك على المؤمنين، لأنه لا يليق بإيمانهم التلوث بمثله، ولو كان لدى الزناة إِيمان لبعدوا عنه، قال - ﷺ -: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" وأَجاز بعض الأَئمة تفسير النكاح هنا بالتزوج، على ما هو معروف في نصوص القرآن الكريم، ويؤيده ما أَخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزول الآية عن مقاتل أنه قال: (لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بِجَهْدٍ إلَّا قليلًا منهم، والمدينة غالية السعر، شديدة الجَهْد (٢)، وفي السوق زوانٍ ُمتَعَالِنَاتٌ من أَهل الكتاب، وإماءٌ لبعض الأنصار، قد رفعت كلُّ امرأَة منهن على بابها علامةً لتُعرفَ آنها زانية، وكنّ مِنْ أَخصب أَهل المدينة وأكثرهم خيرًا، فرغب أُناس من مهاجرى المسلمين فيما يكتسبن للذي فيهم من الجهْد، فأشار بعضهم على بعض: لو تزوجنا بعض هؤلاء الزوانى، فنصيب من فضول ما يكتسبن، فإِذا وجدنا عنهن غِنًى تركناهن، فأَنزل الله تعالى هذه الآية.

(١) أخرج أبو داود في ناسخه، والبيهقى في سننه، والضياء في المختارة، وجماعة من طريق ابن جبر عن ابن عباس أن النكاح هنا بمعنى الوطء.
(٢) الجهد هنا: بمعنى الطاقة، أي: أن المدينة شديدة الطاقة عليهم لغلاء أسعارها، والجهد فيما تقدم: بمعنى الشدة، يكنى بها عن الفقر بسبب الهجرة.


الصفحة التالية
Icon