وترتيب وصفه تعالى بقوله (تبارك) على إنزاله القرآن، لما فيه من الخير الكثير لعباده في الدنيا والآخرة، ولأنه ناطق بعلو شأنه في ذاته وصفاته وأفعاله، وتسمية القرآن بالفرقان، لأنه فرق بين الحق الذي جاء به نبينا محمد - ﷺ -، وبين ما عليه الناس قبله من العقائد الزائفة، والشرائع الفاسدة، وشرع لهم من الأحكام ما يناسب مصلحة البشر في دنياهم وأخراهم، وقد جاء في وصف عظمة القرآن قوله - ﷺ -: "إِن هذا القرآن مَأدبَة الله (١)، فتعلموا من مَأدَبَته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حيل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يَعوَجّ فيُقَوَّم ولا يَزيغ فيسْتَعْتب (٢)، ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد (٣)، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أمَا إني لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف ولام وميم، ولا ألفَيَن أَحدَكم واضعًا إِحدى رجليه يَدَعُ أن يقرأَ سورة البقرة، فإن الشيطان يفِرُّ من البيت الذي تُقْرَأ فيه سورة البقرة، وإن أصفر البيوت (٤) لَجَوفٌ صَفِر (٥) من كتاب الله" أخرجه الحاكم وصححه بسنده عن ابن مسعود، وكذا محمد بن نصر وابن الأنبارى والطبراني وغيرهم.
والمراد بعبده: نبينا محمد - ﷺ -، والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن رسالته إِلى الناس كافة لا تخرجه عن العبودية لله الذي أرسله، وأن من يَدعى الولدية لله في رسول أرسله الله إِليه، فهو كافر، فإنه سبحانه ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾. والمراد بالعالمين: الإنس والجن، منذ عصره - ﷺ - إلى أن تقوم الساعة، ومن أنكر إرساله - ﷺ - إلى الجن فقد كفر، فإنه معلوم من الدين بالضرورة، لشمول العالمين لهم، ولما تدل عليه سورة الجن من أنه تعالى أرسله إلى الجن، فآمن به بعضهم وكفر آخرون، قال تعالى حكاية عن الجن الذين استمعوه: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ
(٢) أي: ولا يميل عن الحق فيلام على ميله.
(٣) أي: لا يبلى على تردادِ قراءته.
(٤) أي: أشدها خلوا من الخير.
(٥) أي: خلا.