وقد عرفوه بالصدق والأمانة، وعدم اشتغاله بالأدب المنثور، والشعر الموزرن، ولم يعرفوا عنه حب الرياسة والجاه، ولا عن أَهل الكتاب أَنهم يعينون غيرهم على هدم دينهم، ولا عن أولئك العبيد والموالى أنهم يحسنون فهم الكتب السماوية أو نقل ما فيها إن صح أنهم يحفظونها ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ وقد لبث الرسول فيهم عمرا طويلًا من قبله يعمل بالتجارة، دون أَن يتجه إِلى تلك الدعوة التي فوجىء بتكليفه بها، وهو لا يسألهم عليها أَجرا، ولا يطلب بها جاهًا، ولا ثراءً فما بالهم لا يعقلون.
٥ - ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾:
بعد ما جعلوا القرآن الحق إِفكا من محمد بإعانة البشر له، بينوا كيفية الإعانة التي زعموها؛ أَي وقال الكافرون: هذا القرآن أَباطيل الأولين طلب محمد كتابتها من أَهل الكتاب، فكتبوها له، فهي بعد تحريرها تملى عليه بكرة أول النهار، وأصيلًا آخر النهار، حتى لا يراه أحد وهي تملى عليه حيث يكون الناس في بيوتهم، لكي يحفظها ممن يمليها عليه.
وقيل: المراد من قولهم: ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾: أَي دائمًا، وقد كذبوا في كل ذلك، ولهذا رد الله عليهم بقوله:
٦ - ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾:
أي قل لهم أيها النبي ردا عليهم: أنزل هذا القرآن الله الذي يعلم الخفى من الأمور في السموات والأرض مثلما يعلم الظاهر منها، وقد أودعه من فنون الأسرار والمصالح الخفية ما لا علم لأحد به، في أسلوب بديع ونظم فريد أَعجزكم وأَعجز جميع الفصحاء والبلغاء عن الإتيان بمثله، وأخبركم بمغيبات مستقبلة مكنونة، لا سبيل لأحد أَن يعلمها إِلا بوحى من ربه، إِن الله الذي أَنزل هذا القرآن، كان ولا يزال موصوفًا بعظيم الغفران والرحمة، ولهذا أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة على هذه الفرية النكراء، لعلكم تتوبون فيغفر لكم ويرحمكم، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾