وجملة ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ استئناف مسوقٌ لبيان الحكمة في ذكر قصة إبراهيم عليه السلام في الكتاب والتنويه بشأنه، فكأَنه قيل: واذكر في القرآن إبراهيم لأنه كان صدّيقًا نبيًا، فهو جدير بأَن يذكر فيه تنويها بشأنه...
٤٢ - ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ... ﴾ الآية.
سلك إبراهيم عليه السلام في دعوة أَبيه إِلى ترك عبادة الأصنام أقوم منهاج للنصح والإرشاد حيث التزم معه الأَدب الحسن، والتواضع الجم، والحجة الواضحة، لئلا يركب متن المكابرة والعناد، فيعرض عن الاستماع إليه بادىءَ ذى بدءٍ، ويَنْكُبَ عن كل طريق قويم يدعوه إلى سلوكه. فقد تقدم إِليه فناداه بقوله: ﴿يَا أَبَتِ﴾ ليحرّك فيه بهذا النداء الحانى عاطفة الأُبوة، فيستمع إلى استفهامه وهو ينكر عليه عبادة ما لا يستحق أن يعبده، حيث قال: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ أي لم تعبد ما لا يسمع ثناءَك عليه عند عبادتك إِياه، وما تلتمسه منه من جلب نفع أو دفع ضرّ، ولا يبصر خضوعك له وخشوعك في حضرته وما تقدمه إليه من صلات وقرابين، أو لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات، فيدخله في ذلك ما ذكر سابقا دخولا أَوليا.
﴿وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾: أي لا يقدر على أن يجلب لك نفعا أو يدفع عنك ضرا، فهو بهذا التساؤل يطلب من أبيه الجواب عن علة عبادة هذا الذي يستخف به كل عاقل من عالم أو جاهل ويأْبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي الغايةُ البالغة من الإكبار والتعظيم، وهي لا تحق إِلا لمن له الاستغناءُ التام، والإنعام العام، والخلق والتكوين، والإِحياءُ والإماتة، وفي هذا تنبيه على أن العاقل يجب أَن يفعل كل ما يفعل لغرض صحيح وإدراك قويم، فكيف يتخذ غير الله معبودًا وإِن علا شأْنه، إذ أَنه مثله في الحاجة والانقياد. فما ظنك بجماد مصنوع ليس له أوصاف الأحياءٍ، وليس فيه غناءٌ، إنه إفك وضلال بعيد..
وبعد أن بين له في رفق وحكمة ضلاله الكبير بعبادة الأصنام، دعاه إلى الحق المبين والعم الإلهى الذي آتاه الله إِياه، ملتزما معه أسلوب الاستمالة والاستعطاف فق