شقائه بدعائه ربه؛ لأنَّ من يدعو الله لا يكون شقيا، ولأن إِبراهيم عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمَّد - ﷺ -، فكيف يكون شقيا بدعاء ربه، ويحمل التعبير بها على التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عَزَّ وَجَلَّ لا بطريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة، وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير. أفاد هذا روح المعانى...
٤٩ - ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... ﴾ الآية.
أي فلما ترك ديار أبيه وقومه مهاجرًا إلى الشام، أبْدَ لَهُ الله من هو خير منهم، كما قال سبحانه: ﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾: عن ابن عباس وغيره: آنسنا وحشته بولد اهـ.
ونص هنا على أن الموهوب له بعد الهجرة هو إسحاق وابنه يعقوب، لأنهما هما اللذان ولدا بالشام التي اعتزلهم إليها، وكانا من ذرية "سارة" وهذا لا يمنع من أنه وهب له قبل ذلك إِسماعيل، فهو ابنه البكر من جاريته "هاجر"، ويدل لذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ (١). كما يدل له التبشير بإِسحاق عقب قصة الذبيح مكافأة له على شروعه في ذبحه بعد أن أُمِرَ به في منامه، قال تعالى في سورة الصافات: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (٢).
ولعل ترتب هبة إسحاق ويعقوب فحسب على اعتزاله لقومه لإِبراز كمال النعمة التي أعطاها الله إياه، لما خصهما به من أولاد وحفدة أولِى شأْن خطير وذوى عدد وفير، وهما شجرتا الأنبياء الكثيرين، من عرف منهم ومن لم يعرف ﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾: أي وكل واحد من إِسحق ويعقوب وهبه الله النبوة في حياة إبراهيم عليه السلام، فأقر الله عينه بنبوة ابنه وحفيده قبل وفاته، بعد أَن حقق له بشارة ملائكته بميلاد إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب في حياته كبر سنه وعقم زوجته.
﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا﴾: والمقصود بالرحمة التي وهب لهم كل خير دينىّ ودنيوىّ أوتوه. وقال الحسن: الرحمة النبوة. وذكرت بعد جعلهم أَنبياء للإيذان بأن النبوة
(٢) سورة الصافات، الآية: