في سلك الكاملين الراسخين في الصلاح، المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها، حتى يكون أهلا لخلافة الحق ورياسة الخلق.
وقدم الدعاءَ الأول على الدعاءِ الثاني لأن القوة العلمية مقدمة على القوة العملية، ولأن العلم صفة للروح، والعمل صفة البدن، ولقد دعا إبراهيم - عليه السلام - بدعائه هذا وهو نبي هضمًا لنفسه، وطلبا للمزيد من الكمالات، وكان من دعاء رسولنا - صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين".
٨٤ - ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾:
أي: اجعل لي ذكرًا صادقا في جميع الأمم إلى يوم القيامة.
أي: خلّد ذكرى الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للأعمال الصالحة وهدايته إلى السنن المرضية التي يقتدى بها الآخرون ويذكرونه بالخير بسببها وهم صادقون - قال عكرمة: كل أُمّة تحبه وتتولاه، ولا بأس بأن يطلب تخليد ذكره ومدحه لأن الثناء الحسن مما يدل على محبة الله تعالى للعبد ورضاه عنه، قال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ (١) وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (٢) أي: حبًّا في قلوب عباده وثناءً حسنا.
ويجوز أن يراد بالآخرين: أُمة يبعث فيها نبى، وأنه - عليه السلام - طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم بأن يبعث منهم نبي يجدد أصل دينه، ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد، معلنا أن ذلك ملة إبراهيم - عليه السلام - فكأنه طلب بعثة نبي في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة، وليس ذلك إلا بعثة نبينا محمَّد - ﷺ - وقد طلب بعثته - عليه السلام - بما هو أصرح من ذلك وهو قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ (٣) ولذا قال - ﷺ -: "أنا دعوة إبراهيم عليه السلام".
ويكون المعنى حينئذ: واجعل لي صاحب لسان صادق في الآخرين، أواجعل لي داعيًا إلى الحق -
صادقًا في الآخرين، واستدل الإمام مالك بهذه الآية على أنه لا بأس أن يحب الرجل أن
يثنى عليه، والأمور بمقاصدها.
(٢) سورة مريم، الآية: ٩٦
(٣) سورة البقرة، من الآية: ١٢٩