وقال القرطبي: أضاف خلقه إلى نفسه تكريمًا له، وإن كان خالق كل شيء، وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئًا بيده إلاَّ على سبيل الإعظام والتكريم، فذكر اليد هنا بمعنى هذا. قال مجاهد: اليد ها هنا بمعنى التأْكيد والصلة أي: لما خلقت أنا (١)، ثم قال القرطبي: وقيل: أراد باليد القدرة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد، وما لي بالحمل الثقيل يدان، ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلاَّ بالقدرة بالإجماع، وقال الشاعر:

تحملت مِن عفراء ما ليس لي به ولا للجبال الراسيات يدان
وقيل: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾: لما خلقت بغير واسطة. انتهى كلام القرطبي بتصرف يسير.
ومعنى: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ أتكبرت من غير استحاق، أم كنت مستحقًّا للعلو فائقًا فيه؟ وقيل معناه: أحدث لك الاستكبار، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، فالتقابل على الأول باعتبار الاستحقاق وعدمه، وعلى الثاني باعتبار الحدوث والعدم، ولذا قيل: أم كنت دون أم أنت (٢).
والمعنى الإجمالي للآية: قال الله - تعالى - لإبليس على لسان ملك: أي شيء منعك من أن تسجد لمن خلقته بنفسي بغير توسط أب وأم، عناية بخلق من طويت فيه العالم الأكبر، أتكبرت من غير استحقاق؟ أم كنت مستحقا للعلو فائفًا فيه؟.
٧٦ - ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾:
هذا جواب الاستفهام الأخير ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ (٣) يعني أنه من العالمين حقيقة، وليس متصنعًا للعلو، فهو مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار - في نظره - أشرف من الطين وأعلى منه، فكيف يسجد الأعلى للأدنى.
(١) ومثل له بقوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) أي ويبقى ربك.
(٢) انظر الألوسي.
(٣) وهو في نفس الوقت متضمن للجواب على الاستفهام الأول "ما منعك أن تسجد".


الصفحة التالية
Icon