والمعنى: أقسم بالرياح التي تذرو الغبار، وتطيّر التراب والرمال، وتهب بين الزروع فتلقح الأشجار، وتدفع السفن في البحار والأنهار، وتسوق السحب إلى حيث يشاء الله بالأمطار، وأقسم بالسحب المثقلة الموقرة بالمياه التي تفرغها في الفيافى والقفار، وتجرى بها القنوات والأنهار، فيشربها الإنسان والحيوان، ويُروى بها الزروع والأشجار، ويعيش عليها جميع الكائنات، وأقسم بالسفن التي تمخر عباب المياه في يسر ورخاء تحمل الأمتعة والأحمال، وتعين على الترحل والانتقال، وتمكِّن من الانتفاع بخيرات البحار، وتربط بين الأقطار، في أمن وسلامة من البحار وأمواجها، وأقسم بالملائكة تنزل بأوامر الله وأقضيته فتجريها على الخلق كلّ بما قدر له رزقًا وحرمانًا وإحياءً وإماتةً، وإقامة وسفرًا، وصحة ومرضًا، وإنجابًا وعقمًا، وغير ذلك ممَّا يجرى على الإنسان بقضاء الله.
وقد ثبت من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألونى عن آية في كتاب الله، ولا عن سنة عن رسوله - ﷺ - إلا أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكوَّاء فقال: يا أمير المؤمنين... ما معنى قوله - تعالى -: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا؟) فقال على - رضي الله عنه -: الريح. قال: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا؟) قال: السحاب. قال: (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا). قال: السفن. قال: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال: الملائكة، ذكره ابن كثير، ومثله في الكشاف.
وقد أقسم الله بهذه الأشياء لكثرة ما فيها من المنافع، والمشاهد الواقعة بين الناس بحيث لا ينكرها أحد، ولما تتضمنه من الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وتناهى قدرته، وبدائع صنعته.
وفي هذا القسم إشعار بأن لله - تعالى - أَن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وأنه يجوز للمخبر بأمر أو المتحدث عن شأن أَن يقسم على صدقه، وإن كان من القداسة أو المنزلة بحيث لا يتطرق إلى خبره شك تأكيدا للخبر، واهتمامًا بشأْنه. وقوله - تعالى -: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦)) هو المقسم عليه، أي: إن الذي توعدونه من أمر البعث والثواب والعقاب والجنة والنار لصادق ثابت لا مجال فيه لريب، وإنَّ الجزاء على الأعمال لحاصل وواقع لا فوت منه، ولا مفرّ عنه فافعلوا فعلكم، وانتظروا جزاءكم.


الصفحة التالية
Icon