وهذا لون آخر من إنكارهم للنبوة، وذلك أنهم أنكروا أولًا أن يكون النبي بشرًا، ثم لما بُكِّتوا بتكرير الحجج على أن النبوة لا يصح أن تكون من الملائكة، بل يجب أن تكون من البشر، ولم تعد لهم حجة على دعواهم أن يكون الرسول مَلَكًا - لمَّا حدث ذلك - جاءُوا بالإنكار من وجه آخر، فتحكموا على الله أن يكون الرسول أحد هذين الرجلين.
وتعبيرهم عمَّا جاء به الرسول بكونه قرآنًا، ليس من باب اعترافهم به، بل هو من باب الاستهانة، وكأنهم قالوا: لو كان هذا الذي يدعيه محمَّد قرآنًا حقًّا من عند الله لنزل على أحد هذين الرجلين.
وما كان محمَّد - ﷺ - بأقل منهم شرفًا، فهو من أعظمهم حسبًا، ولا ينقص من قدره أنه كان قليل المال، وقد غفل هؤلاء المنكرون عن أن الرسالة إنما تستدعى عظيم النفس، بالتخلى عن الرذائل والتحلي بالفضائل وعلو الهمة، دون التزخرف بالزخارف الدنيوية، ولذا دانت لمحمد - ﷺ - الجزيرة العربية في حياته، ومكن الله لدينه في أنحاء الأرض، واستخلف أُمته على كثير من بقاعها، وفاءً بوعده تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لهم... ﴾ (١).
٣٢ - ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾:
في هذه الآية استنكار وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن على من أرادوا، والرحمة يجوز أن يكون المراد منها عمومها وتدخل النبوة فيها، ويجوز أن يراد منها النبوة، وعلى هذا يكون المراد من قسم الرحمة إعطاءها لا تقسيمها، أَما على المعنى الأول فالمراد من قسمها تقسيمها وهو الظاهر.
والمعنى: ألَهُمْ حَقُّ في تقسيم رحمة ربك فيجعلوا قسمًا منها وهو النبوة لمن أرادوا؟ نحن قسمنا من رحمتنا أسباب معيشتهم في الحياة الدنيا، قسمة تقتضيها الحكمة، ولم نفوض

(١) سورة النور، من الآية: ٥٥.


الصفحة التالية
Icon