﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾: استئناف كالذى قبله، فإن كونها مفرق الأُمور المحكمة يستدعي أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها، ومعنى يفرق أنه يكتب ويفصل فيها كل أمر حكيم بمعنى محكم أو منزل على ما تقتضيه الحكمة من بيان أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، فهي مبتدئة من هذه الليلة إلى الليلة الأخرى من السنة القابلة. وهذا الأمر لا يغيّر ولا يبدل بعد إبرازه للملائكة، بخلافه قبله وهو في اللوح المحفوظ، فإن الله يمحو منه ما يشاءُ ويثبت، قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال: كنت عند الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله إنها لفي كل رمضان، وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضى الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها، وروى هذا التعميم عن غير واحد من السلف، قال ابن عيسى: هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا﴾ منصوب علي الاختصاص، أي: أعنى بهذا الأمر أمرا عظيما حاصلا من عندنا. والمراد بالعندية أنه أمر على وفق الحكمة والتدبير، فهو بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بقوله - سبحانه -: ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾.
وحاصل المعنى: أن جميع ما نقدره في تلك الليلة، وما نوحى به إلى الملائكة من شئون العباد أمر من جهتنا علي مقتضى حكمتنا وتدبيرنا. فزاد بذلك فخامة وجلالا.
﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ بدل انتقال من (إنا كنا منذرين) لتفصيله أي: إنا أنزلنا القرآن؛ لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل إفاضة رحمتنا عليهم، أو لاقتضاء رحمتنا بهم التي سبقت إرسالهم بالشرائع، ووضع الرب موضع الضمير فقيل: رحمة من ربك. ولم يقل مِنَّا للإيذان بأن الربوبية تقتضى الرحمة على المربوبين وإضافته إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - لتشريفه.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي: إنه هو السميع لكل مسموع من أقوال العباد، العليم بكل معلوم من أحوالهم وذلك تحقيق لربوبيته وأنها لا تكون إلا لمن هذه أوصافه.