ولقد كنت يوماً مع بعض المعلمين، فجلس إلينا أبي -رحمة الله عليه- يطالع ما انتهى إليه علمي في لحظة سرقها من زمانه مع عظيم أشغاله، وجلس بجلوسه من حضر من قاصديه، فدخل إلينا أحد السماسرة وعلى يديه رِزْمَةَ كُتُب، فَحَلَّ شِنَاقَهَا (١) وأرسل وِثَاقَهَا، فَإذَا بها من تأليف السِّمْنَانِيّ (٢) شَيْخِ البَاجِيّ (٣). فسمعت جميعهم يقولون: هذه كتب عظيمة، وعلوم جليلة، جلبها الباجيّ من المشرق، فصدعت هذه الكلمة كبدي، وقرعت خلدي، وجعلوا يوردون في ذكره ويصدرون، ويَحْكُون أن فقهاء بلادِنا لا يفهمون عنه ولا يعقلون، وناهيك من أمة يجلب إليها هذا القدر الطفيف، فلا يكون منهم أحد يضاف إليه، إلاَّ بصفة العاجز الضعيف، ونذرت في نفسي طية، لئن ملكت أمري لأهاجرن إلى هذه المقامات،

(١) الشِّنَاقُ هو الخيط الذي تشد به الرزمة.
(٢) هو القاضي العلامة أبو جعفر أحمد بن محمد السَّمْنَانِي، كان مقدم الأشعرية في وقته، شنع عليه ابن حزم كعادته في الانتقاص من الأشاعرة. له تصانيف مفيدة في الفقه والكلام، توفي رحمه الله عام: ٤٤٤ انظر: الخطيب: تاريخ بغداد: ٤/ ٣٨٢ ابن الجوزي: المنتظم: ٨/ ٢٨٧، ابن عساكر: تبيين كذب المفتري: ٢٥٩، الصفدي: نكت الهميان: ٢٣٧، الذهبي: سير أعلام النبلاء: ١٨/ ٣٠٤.
(٣) هو الإِمام الحافظ أبو الوليد سليمان بن خلف التُّجيبِيّ الباجي، يعتبر من الذين جددوا مناهج البحث وطرق التفكير في الأندلس، له تصانيف كثيرة في الفقه والكلام والزهد. توفي رحمه الله سنة: ٤٧٤. انظر: ابن خاقان: قلائد العقيان: ٢١٥، القاضي عياض: ترتيب المدارك: ٧/ ١١٧ (ط: الرباط)، ابن بشكوال: الصلة: ١/ ٢٠٠، الذهبي: سير أعلام النبلاء: ١٨/ ٥٣٥.


الصفحة التالية
Icon