سقينا واستقينا، ثم خرجنا عنه مُصْحِرينَ في السمَاوَة عَشِيَّ يوم الأحدِ منسلخَ شَعْبَانَ سنة تسع وثمانين وأربعمائة. فبينا نحن نقطع المفازة إلى ماء يقال له الأطْوَاء (١)، أهَلَّ علينا هلال رمضان، فكبَّر الناس والتَفَتَ إِليَّ أبي رحمة الله عليه يُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِهِم، فما صرفت بصري إليه كراهة في جهة المغرب التي كان بها وتشوقاً إلى جهة المشرق التي كنت أؤملها..
واستمر بنا المسير تظلنا السماء، وتقلنا السمَاوَة حتى بلغنا بغداد فنزلنا بها، وخرجت إلى جامع الخليفة يوم الجمعة فصليت وجلست إلى حلقة حسين الطَّبَرِي (٢) النائب في ولاية التدريس بالدارِ النِّظَامِيةِ في ذلك الوقت، فسمعتهم يتكلمون في مسألة إجبار السيد عبده على النكاح، ولا يفوتني من كلامهم شيء من الفساد والصلاح، ونظرت إلى حالي أول دخولي بيت المقدس وأنا أسمع كلام مجلي في مسألة الحرم، وحالي حين دخولي بغداد وسماعي مسألة إجبار العبد على النكاح، فَهَمَّ قلبي يغيظ وَكَادَ لِسَاني يفيض، ثم تماسكت وليتني تكلمت، وعلى هذه الحال فإني قلت لبعض الطلبة الذي كان يجاورني: كلام المستدل أقوى من كلام المعترض،

(١) الأطْوَاء من مياه عَمْرو بن كِلَاب في جبل يقال له الشَّرَاء. انظر: معجم البلدان: ١/ ٢١٩، ٣/ ٣٢٩.
(٢) هو الحسين بن علي الفقيه الشافعي، محدث مكة، رحل إلى بغداد وَدَرَّسَ بالنِّظَامِيةِ منفرداً ثم اشترك مع محمد الفامي ثم أصبح معيداً بها بعد أن ترك الغزالي التدريس بها، (ت: ٤٨٩) العبر: للذهبي ٣/ ٣٠١ وتذكرة الحفاظ: ٣/ ١٦٠ طبقات الشافعية للسبكي: ٤/ ٣٤٩.


الصفحة التالية
Icon