خلولته ونشاطه، وكأنما فَرَغَ لي لأبلُغَ منه أملي، وأباح لي مكانه، فكنت ألقاه في الصباح والمساء والظهيرة والعشاء، كان في بَزَتِّهِ (١) أو بَذْلَته (٢)، وأنا مستقل في السؤال، عالمٌ حيث تؤكل كتفُ الاستدلال، وألفيته حَفِيّاً بي في التعليم، وفياً بعهدة التكريم (٣).
وكان من صنع الله الجميل بي توفيقُه لي إلى الإِقامة بأرض الشام، في بقعة مباركة وبين علماء حتى صار ذلك دَرَجاً للقاء المحققين الذين ينتقدون ما جهلت، ويفسرون ما أجملت، ويوضحون ما أبهمت، ويُكَملون ما نقصت، وصار ما حصل عندي من تلك المقدمات، استعداداً لقبول الحقائق فيها، وتقييد الشارد من معانيها، وصار ذلك كمن يدخل المعدن فيجمع النُّضَارَ (٤) بِرَغَامِهِ (٥)، ويحمله إلى دار السبك لتخليصه.
ثم شرعت في القراءة عليه والسماع، والمباحثة والتتبع للمشكلات بالكشف عن خباياها، والدخول إلى زواياها، واشتفاف رواياها،

(١) أي في ثيابه.
(٢) أي في أثوابه القديمة البالية.
(٣) قال الإِمام الغزالي في رسالته المشهورة إلى الأمير يوسف بن تاشفين: ٣٢/ ب "مخطوط الرباط رقم ١٠٢٠": "والشيخ الإِمام أبو بكر بن العربي قد أحرز من العلم في وقت تردده إليَّ، ما لم يحرزه غيره. مع طول الأمد، وذلك لما خص به من صفاء الذهن، وذكاء الحسّ، واتّقاد القريحة، وما يخرج من العراق إلاَّ وهو مستقل بنفسه، حائز قصب السبق بين أقرانه".
(٤) الجوهر الخالص.
(٥) الرَّغَام هو الرمل المختلط بالتراب.


الصفحة التالية
Icon