هذا القول الذي أملت الفلاسفة (١)، وانخدع به زمرة من الصوفية (٢)، فيه نظر من ثلاثة أوجه:
(١) يحسن بنا في هذه التعليقة أن ننقل كلام الفيلسوف "ابن سينا" في مثل هذا الموضوع الخطير، فإنه سيساعد -بإذن الله- على توضيح فكرة الفلاسفة حول الرياضة والمجاهدة ثم الاتصال بالملكوت والتي أثرت تأثيراً قوياً على المتصوفة منذ القدم إلى يومنا هذا، يقول ابن سينا: "... والعارفون المنزهون إذا وضع عنهم مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتعشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللذة العليا... ثم إنه (أي الفيلسوف العارف) إذا بلغت به الرياضة والإرادة حداً ما، عنت له خلسات من نور الحق عليه،... ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه غير الارتياض... يكاد يرى الحق في كل شيء.. ثم لتبلغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفاً، والوميض شهاباً، وتحصل له معارف مستقرة، كأنها صحبة مستمرة، ويستمتع بها ببهجته.. " الإشارات والتنبيهات: ١٩٨ (ط: د. دنيا: ١٩٥٧) وانظر مثل هذا الكلام: الفارابي: آراء المدينة الفاضلة: ١١٢ (ط: الكاثوليكية: ٧٩).
(٢) وعلى رأسهم حجة الإسلام الغزالي كما ذكر المؤلف في العواصم: ٣١، حيث أورد نفس القول -مع اختلاف في اللفظ يسير- وزعم أن الغزالي قاله بلفظه وَكَتَبهُ لَهُ بخطه أيام لقائه ببغداد في جمادى الآخرة سنة ٤٩٠، ولمعرفة رأي الغزالي انظر الإحياء: ١/ ١٢، وقانون التأويل: ٢٤٥ (ط: الجندي) له، وكيمياء السعادة: ٥١٦ - ٥١٧.
وقد تعقب شيخ الإِسلام ابن تيمية كلام الغزالي فقال: "وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أن أهل الرياضة وتصفية القلب وتزكية النفس بالأخلاق المحمودة قد يعلمون حقائق ما أخبرت به الأنبياء من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر ومعرفة الجن والشياطين بدون توسط خبر الأنبياء، هو بناء على هذا الأصل الفاسد، وهو أنهُم إذ صَفّوا نفوسهم نزل على قلوبهم ذلك، إما من جهة العقل الفعال أو غيره، وأبو حامد يكثر ذكر هذا، وهو مما أنكره عليه المسلمون وقالوا فيه أقوالاً غليظة بهذا السبب الذي أسقط فيه توسط الأنبياء في الأمور الخبرية.. ولهذا قالوا: كلامه يقدح في الإيمان بالأنبياء"، الرد على المنطقيين: ٥٠٩ - ٥١٠.
قلت: ويرى شيخ الإسلام أن كثيراً من الصوفية كمحيي الدين بن العربي (ت: ٦٣٨) وصدر الدين القُونَوِي (ت: ٦٧٣) وعفيف الدين التِّلِمْسَانِي (ت: ٦٩٠) وغيرهم قد بنوا أصولهم الفكرية والعقدية على أصول الفلاسفة ومناهجهم، ولكنهم غَيرُوا عباراتهم فأخذوا عبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وعلمائها وعُبَّادِهَا وَمَنْ دخل في هؤلاء من الصوفية المتبعين للكتاب والسنة كالفضيل بن عياض (ت: ١٧٨) ومعروف الكرخي (ت: ٢٠٠)، والجنيد البغدادي (ت: ٢٩٧) وغيرهم. أخذوا معاني أولئك لملاحدة فعبروا عنها بالعبارات الموجودة في كلام من هو معظم عند المسلمين، فيظن من سمع ذلك أن أولئك =
(٢) وعلى رأسهم حجة الإسلام الغزالي كما ذكر المؤلف في العواصم: ٣١، حيث أورد نفس القول -مع اختلاف في اللفظ يسير- وزعم أن الغزالي قاله بلفظه وَكَتَبهُ لَهُ بخطه أيام لقائه ببغداد في جمادى الآخرة سنة ٤٩٠، ولمعرفة رأي الغزالي انظر الإحياء: ١/ ١٢، وقانون التأويل: ٢٤٥ (ط: الجندي) له، وكيمياء السعادة: ٥١٦ - ٥١٧.
وقد تعقب شيخ الإِسلام ابن تيمية كلام الغزالي فقال: "وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أن أهل الرياضة وتصفية القلب وتزكية النفس بالأخلاق المحمودة قد يعلمون حقائق ما أخبرت به الأنبياء من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر ومعرفة الجن والشياطين بدون توسط خبر الأنبياء، هو بناء على هذا الأصل الفاسد، وهو أنهُم إذ صَفّوا نفوسهم نزل على قلوبهم ذلك، إما من جهة العقل الفعال أو غيره، وأبو حامد يكثر ذكر هذا، وهو مما أنكره عليه المسلمون وقالوا فيه أقوالاً غليظة بهذا السبب الذي أسقط فيه توسط الأنبياء في الأمور الخبرية.. ولهذا قالوا: كلامه يقدح في الإيمان بالأنبياء"، الرد على المنطقيين: ٥٠٩ - ٥١٠.
قلت: ويرى شيخ الإسلام أن كثيراً من الصوفية كمحيي الدين بن العربي (ت: ٦٣٨) وصدر الدين القُونَوِي (ت: ٦٧٣) وعفيف الدين التِّلِمْسَانِي (ت: ٦٩٠) وغيرهم قد بنوا أصولهم الفكرية والعقدية على أصول الفلاسفة ومناهجهم، ولكنهم غَيرُوا عباراتهم فأخذوا عبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وعلمائها وعُبَّادِهَا وَمَنْ دخل في هؤلاء من الصوفية المتبعين للكتاب والسنة كالفضيل بن عياض (ت: ١٧٨) ومعروف الكرخي (ت: ٢٠٠)، والجنيد البغدادي (ت: ٢٩٧) وغيرهم. أخذوا معاني أولئك لملاحدة فعبروا عنها بالعبارات الموجودة في كلام من هو معظم عند المسلمين، فيظن من سمع ذلك أن أولئك =