قلت: ورغم هذا كله، فإن المغاربة أخذوا يتعلقون بالغزالي شيئاً فشيئاً، إلى أن أصبح إمامهم في التصوف بلا منازع، يسترشدون به في المهمات، ويستنيرون به في المشكلات، حتى قال قائلهم:

أبا حامد أنت المخصص بالمجد وأنت الذي علمتنا سنن الرشد
وضعت لنا الِإحياء يحيي قلوبنا وينقذنا من طاعة النازع المردي
وفيها ابتهاج للجوارح ظاهر ومنها صلاح للقلوب من البعد (١)
ولم يعدم الِإمام الغزالي أنصاراً يدافعون عنه، ويأنسون له، وينهجون سبيله. فقد وجد في الأندلس من الفقهاء من برّأ الغزالي مما رمي به، وفي هذا الموضوع يحدثنا قاضي الجماعة ابن حمدين بقوله: "إن بعض من كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفاً بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من شنع مناكيره، ومضاليل أساطيره المباينة للدِّين؟ وزعم أن هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية الذي لا يفسر عن قناعة، ولا يفوز بإطلاعه إلاَّ من تمطى إليه ثبج ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها.. " (٢).
= النبلاء ١٩/ ٣٤١ وكذلك السبكي في طبقات الشافعية ٦/ ٢٤١ إلاَّ أن السبكي تصدى للرد على المازري بردود ضعيفة.
تنبيه: لا شك أن الذين أنكروا على الغزالي ينتمون إلى مختلف المذاهب وهم- كما قال الزبيدي في الإتحاف: ١/ ٤٠ "طوائف شتى ما بين مغاربة ومشارقة، ومالكية وشافعية وحنابلة"-، ولكنني اقتصرت على ما له علاقة بالأندلس والعصر الذي أتحدث عنه، وإلا فإن هناك من الأندلسيين المتأخرين من ردّوا على الغزالي، منهم على سبيل المثال أبو بكر محمد بن عبد الله المالقي (ت: ٧٥٠) في الرد على "المضنون على غير أهله" ولدي صورة نادرة من هذا المخطوط القيم، عثرت عليه في مكتبة مدريد الوطنية وهو من الأهمية بمكان.
(١) أورد هذه الأبيات السبكي في طبقات الشافعية: ٦/ ٢٥٤ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين: ١/ ٤٠.
(٢) الذهبي: سير أعلام النبلاء: ١٩/ ٣٣٢، كما ألّف أبو علي المسيلي (ت: ٥٨٠) كتاباً في التذكير على غرار كتاب "الإحياء" ولذلك كان يسمى بأبي حامد الصغير. انظر: الغبريني: عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المئة السابعة ببجاية: ٣٣ (ط: بيروت ١٩٦


الصفحة التالية
Icon