وما شغلني عن ذلك معاش أريشه، ولا ولاية استجدها، وإنما أقعدني ضعف الطالب لها، وكثرة المطالب عليها، وذلك الذي أدخلني في معرفة السلطان، فإن الجاهل أو الفقير لا يفتقر إليه، والغني قبل اليوم كان في غنى عنه.
وأما وقد امتدت الأطماع إلى الأموال، وضاقت عن مآل الرجال، فتدعو الضرورة إلى السلطان لأكثر الأغنياء، ولا سيما أصحاب الضياع؛ لأن المملكة في كل أمة قد سحبت ذيلها على الضياع، وقويت على الأموال الأطماع، فصاحب الضيعة مدفوع إلى معرفة الأمير، ولا يرى ضرورة ليدفع عن نفسه معرة، ولتحقيق وعد الصادق صلوات الله عليه حين دخل دار رجل من الأنصار فرأى فيه آلة الحرث فنظر إليها وقال: "مَا دَخَلَتْ قَط دَار قَوْم إلاَّ وَأدْخَلَتِ الذل" (١)، وقد تدرك الآفة للمعتزل للعبادة من وجوه ذكرناها في "مسائل الصحبة والعزلة".
وأما العلم المفتقر إلى السلطان، فإنه إن كان فقيراً أو غنياً وسكت عن العلم حصل أحد الرجلين المتقدمين، وإن تكلم بالعلم وأظهره حسده المقصرون عن درجته، إذ ليس لهم من الدين ما ينصفون به، فيقرون له بالشفوف (٢) عليهم في مرتبته، إذ يتوقعون على دنياهم أن يحوزها دونهم أو ينقصهم، فينسبونه إما إلى البدعة، وإما إلى التخليط وهي سالمة، فذاك الذي دعاني إلى مداخله السلطان، ولنا في ذلك أعظم أسوة، فقد كان الأنبياء فيما سلف على قسمين:
منهم من يعضده الله بالقوة والجند، ويأذن له في القتال.

(١) نحو هذا الحديث رواه البخاري في الحرث والمزارعة: ٣/ ٦٦، وقال ابن الأثير في شرح غريب هذا الحديث إن أهل الحرث تنالهم المذلة بما يطالبون به من الخراج والعشر ونحوهما.
جامع الأصول: ١١/ ٧٦٦.
(٢) الشفوف جمع شِفّ وهو الفضل.


الصفحة التالية
Icon