والمعنى: إن مَثَلَ عيسى عند الله في الخلق والإنشاء من غير أب وإيجاده إيجاداً خارقاً للعادة، كمَثَلِ آدم، وكون آدم خُلِق من غير أبوين لا يمنع من تشبيه عيسى به في أحد الطرفين، إذ المماثلة لا تقتضي المشاركة من كل وجه، وفي ضمن تمثيل عيسى بآدم قطعٌ لحُجَّة الخصم بأبلغ الطرق، حيث اعتقد استحقاق عيسى للإلهية بإيجاده من غير أب، فأورد عليه ما هو أعجب من عيسى، وهو آدم.
وبلغنا أن بعضَ العلماء أسرته الروم، ففاوضوه يوماً في ذكر عيسى، فقال: لِمَ تعبدونه؟ فقالوا: لأنه لا أب له، قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له، قالوا: كان يُحْيي الموتى، قال: فحزقيل (١) أولى، لأن عيسى أحيا أربعة أنفس وحزقيل أحيا ثمانية آلاف، قالوا: فكان يبرئ الأكمه والأبرص، قال: فجرجيس (٢) أولى لأنه طُبخ وأُحْرِق، ثم قام سالماً (٣).
قوله: ﴿خلقه من تراب﴾ يعني: صوَّره وقدَّره جسداً من طين، لا روح فيه. ﴿ثم قال له﴾ أي لآدم، وقيل: لعيسى، ﴿كن فيكون﴾ أي: فكان، وقد قررنا مثل ذلك في قوله: ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ﴾ [البقرة: ١٠٢].
﴿الحق من ربك﴾، أي: هذا الحق من ربك، أو أتاك الحق، أو هو مبتدأ وخبر.
ثم خاطب المؤيّد بالعصمة بالنهي عن الامتراء، وهو: الشك فيما جاءه من

(١)... حزقيل وهو الذي يقال له: ابن العجوز؛ لأن أمه سألت الله الولد وقد كبرت فوهبه الله لها، وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله (الكامل ١/١٦٠). والله أعلم بصحة هذه الرواية.
(٢)... جرجيس: رجل صالح من أهل فلسطين، أدرك بقايا من حواريي عيسى عليه السلام (الكامل ١/٢٨٥، والمنتظم ٢/١٤٨).
(٣)... ذكره النسفي في تفسيره (١/١٥٧).


الصفحة التالية
Icon