طلع أعرابي جَلْفٌ جافٍ على قَعُود (١) له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلّم، وقال لي: ممن الرجل؟ قلتُ: من بني الأصمع. قال: أنت الأصمعي؟ قلتُ: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ [فقلت] (٢) : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلتُ: نعم، قال: اتل عليّ شيئاً منه، قلتُ له: انزل عن قَعُودك، فنزل وابتدأت بسورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون﴾، قال: يا أصمعي! هذا كلام الرحمن؟ قلتُ: إي والذي بعث محمداً - ﷺ - بالحق إنه لكلامه، أنزله على نبيه محمد - ﷺ -، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطّعها بجلدها وقال: أعنّي على تفريقها، ففرّقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل (٣)، وولى مدبراً نحو البادية وهو يقول: ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون﴾ (٤)، فأقبلت على نفسي باللوم، وقلت: لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي.
فلما حججتُ مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة، إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي نحيلٌ مصفارٌ، فسلّم عليّ وأخذ بيدي فأجلسني من وراء المقام وقال [لي] (٥) : اتل عليّ كلام الرحمن، فأخذت في سورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله تعالى: ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون﴾
(٢)... في الأصل: قال. والتصويب من ب.
(٣)... في كتاب التوابين (ص: ٢٧٤) : الرحل.
(٤)... في الأصل: ورزقكم في السماء وما توعدون. والمثبت من ب.
(٥)... زيادة من ب، والثعلبي (٩/١١٥)، والتوابين (ص: ٢٧٥).
(١/٤٢٠)