وأما ختم قوله: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: ١٢٩] بقوله ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: ١٢٩] فمعناه: كما أن بعثك لهذا الرسول فيه الرحمة السابغة، ففيه تمام عزة الله وكمال حكمته، فإنه ليس من حكمة أحكم الحاكمين أن يترك الخلق سدى عبثا، لا يرسل إليهم رسولا، فحقق الله حكمته ببعثه، كما حقق حكمته لئلا يكون للناس على الله حجة، والأمور كلها: قدريها وشرعيها، لا تقوم إلا بعزة الله، ونفوذ حكمه.
وقد يكتفي الله بذكر أسمائه الحسنى عن التصريح بذكر أحكامها وجزائها، لينبه عباده أنهم إذا عرفوا الله بذكر الاسم العظيم، عرفوا ما يترتب عليه من الأحكام، مثل قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [البقرة: ٢٠٩] لم يقل: فلكم من العقوبة كذا، بل قال:﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢٠٩] أي: فإذا عرفتم عزته وهي قهره وغلبته وقوته وامتناعه، وعرفتم حكمته - وهي وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها محالها - أوجب لكم ذلك الخوف من البقاء على ذنوبكم وزللكم، لأن من حكمته معاقبة من يستحق العقوبة: وهو المصر على الذنب مع علمه، وأنه ليس لكم امتناع عليه، ولا خروج عن حكمه وجزائه، لكمال قهره وعزته.
وكذلك لما قال في سورة المائدة: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ﴾ [المائدة: ٣٤] لم يقل: فاعفوا عنهم أو اتركوهم ونحوها، بل قال: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: ٣٤] يعني: فإذا عرفتم ذلك وعلمتموه، عرفتم أن من تاب وأناب فإن الله يغفر له ويرحمه، فيدفع عنه العقوبة.
ولما ذكر عقوبة السارق قال في آخرها: ﴿ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: ٣٨] أي: عز وحكم فقطع يد السارق، وعز وحكم فعاقب المعتدي شرعاً وقدراً وجزاء.


الصفحة التالية
Icon