الإجابة
الحمد لله
أولا :
روى البخاري (3189) ، ومسلم (1353) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ
مَكَّةَ: ( إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) .
وفي صحيح مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ ، قَالَ : رَبِّ ، وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ : اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) رواه أبو داود (4700) . وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
ولا إشكال ، ولا تعارض ، بحمد الله ، بين هذين الحديثين ، أو هذين الأصلين من أصول الإيمان بالقدر . ويتضح ذلك ، ويزول الإشكال بوجهين :
الوجه الأول :
أن الكتابة السابقة ، لكل ما يجري من أمر الكون ، في اللوح المحفوظ ، قبل خلق
السموات والأرض ، لا تمنع من أن يكتب الله الشيء المعين ، كتابة خاصة به ، مرة أخرى
، هي موافقة لما سبق به الكتاب الأول .
ونظير ذلك : ما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه المعروف ، في خلق الجنين في بطن أمه ، وفيه : ( ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ
فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ،
وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ .. ) .
قال ابن رجب رحمه الله :
" فَهَذِهِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُكْتَبُ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ غَيْرُ
كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ السَّابِقَةِ لِخَلْقِ الْخَلَائِقِ الْمَذْكُورَةِ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد: 22]
(الْحَدِيدِ: 22) ، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ
الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرْى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَا رُوِيَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَلَكَ إِذَا سَأَلَ عَنْ حَالِ النُّطْفَةِ ، أُمِرَ أَنْ
يَذْهَبَ إِلَى الْكِتَابِ السَّابِقِ ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ تَجِدُ فِيهِ
قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ ، وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ بِذِكْرِ الْكِتَابِ
السَّابِقِ، بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ .. " انتهى من "جامع العلوم والحكم"
(1/168) .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (34732) ، ورقم : (138798) .
الوجه الثاني :
أن الله جل جلاله ، وإن كان قد كتب في اللوح المحفوظ حرمة البيت الحرام ، وقدرها ،
كما قدر مقادير الخلائق ، من قبل خلق السموات والأرض فإنه قد أظهر ذلك في الوجود ،
وقضى أن يبقى هذا البيت محفوظا ، بحفظ الله له ؛ فجرى قضاء الله جل جلاله في ذلك ،
على وفق ما سبق به القدر .
وهذا ، كما أن الله تعالى قدر ، نبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب
السابق ، ثم إنه قد ورد في الحديث الآخر : ( إِنِّي عَبْدُ اللهِ لَخَاتَمُ
النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ )
رواه أحمد (17150) وغيره من حديث العرباض بن سارية ، وصححه الشيخ الألباني في
"مشكاة المصابيح " (5759) .
وفي المسند أيضا (20596) : عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ، قَالَ: " قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ ، مَتَى كُتِبْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ: (وآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ
وَالْجَسَدِ) وصححه الألباني .
هذا ، مع أن أمر نبوته لم يخرج إلى الوجود ، ولم يحدث بالفعل ، إلا بعد أن نبأه الله تعالى ، بعد ما خلقه ، وبلغ أربعين سنة ، صلى الله عليه وسلم .
فالمراتب ـ في تقدير نبوته
صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة :
الكتابة السابقة ، في اللوح المحفوظ ، وكتابة أخرى ، وآدم في طينته ، وأما المرتبة
الثالثة : فهي مرتبة ظهور أنوار النبوة في الوجود .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ فِيهَا يُقَدَّرُ
التَّقْدِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِأَيْدِي مَلَائِكَةِ الْخَلْقِ فَيُقَدَّرُ لَهُمْ
وَيَظْهَرُ لَهُمْ وَيَكْتُبُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَخْلُوقِ قَبْلَ نَفْخِ
الرُّوحِ فِيهِ " .
" وَكِتَابَةُ نُبُوَّتِهِ هُوَ مَعْنَى كَوْنِ نُبُوَّتِهِ ؛ فَإِنَّهُ كَوْنٌ فِي
التَّقْدِيرِ الْكِتَابِيِّ لَيْسَ كَوْنًا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ إذْ
نُبُوَّتُهُ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا
قَالَ تَعَالَى لَهُ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا
الْآيَةَ. وَقَالَ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ؟ الْآيَةَ. وَقَالَ:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الْآيَةَ. وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا
الْمَعْنَى مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ " انتهى من "مجموع
الفتاوى" (2/148، 149) ، وينظر : (18/369-370) .
وقال أيضا :
" فكتب الله نبوتَه بعد خلقِ آدم وقبلَ نفخ الروحِ فيه ... وأما تبيّن ذاته وصفاتِه
، وجَعْلُ الله له نبيًّا ورسولاً فإنما كان حتى خَلَقَه ونبّأه الله ، على رأس
أربعين سنة .." .
انتهى من "جامع المسائل" (4/308) .
ثانيا :
وأما ما رواه البخاري (2129) ، ومسلم (1360) عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا
حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ
مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِمَكَّةَ ) .
فهذا هو التحريم الشرعي
الديني ؛ والأول : تحريم قدري كوني ، فقد شاء الله أن يجعل مكة بلدا حراما ، وكتب
ذلك في الكتاب السابق ، ثم لما خلق الله السموات والأرض ، ظهرت حرمة هذا البلد في
الكون ، بتحريم الله وحفظه .
ثم لما بعث الله نبيه إبراهيم : كان أول من شرع للناس ، وسن لهم : تحريم البلد
الحرام ، وحفظ حرمته ، وجعل ذلك دينا له ولأتباعه .
قال الإمام ابن جرير الطبري ، رحمه الله :
" الصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها
وأنشأها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم،" أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض "،
بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء،
وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من
النقمات.
فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده
إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك
سنة لمن بعده من خلقه، يستنون به فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا ، وأخبره
أنه جاعله للناس إماما يقتدى به ، فأجابه ربه إلى ما سأله ، وألزم عباده حينئذ فرض
تحريمه على لسانه ، فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب
الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على
لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب
على عباده الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها لها ، بإيجابه الامتناع
من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم .." .
انتهى من "تفسير الطبري" (2/ 50-52) .
وقال ابن دقيق العيد رحمه
الله :
" قِيلَ بِظَاهِرِ هَذَا، وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ أَظْهَرَ حُرْمَتُهَا بَعْدَ مَا
نُسِيَتْ . وَالْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ . وَقِيلَ: إنَّ التَّحْرِيمَ فِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ ، وَحُرْمَتُهَا
يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: كِتَابَتُهَا فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ ، أَوْ غَيْرِهِ : حَرَامًا. وَأَمَّا الظُّهُورُ لِلنَّاسِ: فَفِي
زَمَنِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " انتهى من "إحكام الأحكام" (2/ 63) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" قَوْلُهُ ( إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ )
فَهَذَا تَحْرِيمٌ شَرْعِيٌّ قَدَرِيٌّ ، سَبَقَ بِهِ قَدَرُهُ يَوْمَ خَلَقَ هَذَا
الْعَالَمَ ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، كَمَا فِي " الصَّحِيحِ " عَنْهُ،
أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( اللَّهُمَّ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ ) ؛
فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ ظُهُورِ التَّحْرِيمِ السَّابِقِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ ، وَلِهَذَا لَمْ يُنَازِعْ
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِهَا "
انتهى من "زاد المعاد" (3/ 388) .