الإجابة
الحمد لله
أولاً :
من الإنصاف للحقيقة أن يعلم الناظر والباحث ، أن العالم إذا ألف كتابا واحتوى علما
كثيرا ثم بعد ذلك اطلعوا على مكان واحد من كتابه يصعب على الفهم ، فالمتعارف عليه
عند جميع العقلاء ، والذي تقتضيه الموضوعية العلمية أنّ هذا الكتاب لا يُطعن فيه ،
ولا يُطرح جميع ما فيه من علم ، بمجرد وجود هذه الصعوبة ، بل عليه أن يستعمل
الأدوات المناسبة لفهم ما يشكل عليه ، وحل معضلات الكلام .
وهذا في كلام البشر ؛ فكيف بكتاب مثل " كتاب الله " جل جلاله ، وقد مر عليه من
القرون ما مر ، وآمن به من العقلاء من آمن ، وعاداه من البشر من عاداه ، وسعوا إلى
الطعن فيه بكل سبيل ؛ فلم يستطيعوا أن يأتوا فيه بطائل ؛ بل يضطر المنصفون منهم إلى
الإقرار بفضل هذا الكتاب ، وعظيم شأنه ، ومنهم من شرح الله صدره للإيمان به ، بعدما
جهد طويلا ليطعن فيه !!
ثانياً :
القصص في القرآن : جاءت لمقاصد إيمانية ودعوية أشار القرآن إليها بوضوح منها :
1- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين عند الشدائد :
قال الله تعالى : ( وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ ) هود/ 120 .
2- للتدليل على أن هذا القرآن من الله تعالى المحيط بكل شيء علما ، والعالم بما كان
وبما سيكون ، كما قال الله تعالى بعد ذكره لقصة نوح عليه السلام :
( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ
وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )
هود / 49 .
فالقرآن يذكر من الحادثة ما يحقق المقصود الدعوي والإيماني منها ، كما نرى في قصة
نوح عليه السلام مع قومه ، فقد كان التركيز على جهد نوح في دعوته ، وبيان مدى إعراض
قومه عن الحق ، ثم بيّن الله العقاب الذي لحق هؤلاء القوم المعرضين عن الحق ، وذكر
لنا من صفات هذا العقاب ما نستطيع أن نأخذ منه صورة عامة لهوله ، أما باقي تفصيلاته
التي لا تفيدنا فلم يتعرض لها القرآن .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
" ففي القرآن الكريم أشياء كثيرة لم يبيِّنها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في
بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .
وكثيرٌ من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نُعرض عن
مثل ذلك دائماً ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من
بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب
سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير
ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه " انتهى من " أضواء
البيان " (4/58) .
فالأولى أن نترك التدقيق في المعلومات التي لم يذكرها القرآن ولا السنة عن هذا
الطوفان وذلك لسببين :
1- عدم وجود الفائدة من ذلك التدقيق ، فلو كان فيه فائدة لأخبرنا به القرآن أو
السنة .
2- أن الأسانيد العلمية ، والأدلة التاريخية : لن توصلنا إلى نتيجة قطعية في مثل
ذلك ؛ لأن واقع الحياة وتفاصيلها في ذلك الزمن البعيد جدا : مجهولة للإنسان ، وما
يذكره العلم الحديث عن تلك الأزمان البعيدة في القدم : ليس كله من الحقائق العلمية
المطلقة ، بل كثير منه هو نظريات وتفسيرات علمية ، قابلة للتغير والتخطئة والإبطال
.
ثالثاً :
ظاهر النصوص القرآنية والذي عليه المفسرون أنه عمّ الأرض ، وصرح القرآن أيضا أنّ
قوم نوح قد عمّهم الطوفان بماء هائل ، ولم ينج منهم إلا من ركب مع نوح في السفينة ،
والبشرية اليوم هي من نسل نوح عليه السلام ، فهذا الذي يشير إليه القرآن ، أما كيف
تمّ جمع هذه الحيوانات ، وكم طول السفينة ، وكم كانت كمية الماء وإلى أي مدى بالضبط
وصل ؛ فلا يوجد نص قاطع من قرآن أو سنة على ذلك ، فلا نشغل بها أنفسنا .
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله :
" وعموم الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة " انتهى من " التحرير والتنوير "
(23/131) .
ولمزيد الفائدة طالع الفتوى رقم : (130293 ) .
والقرآن الكريم لم يخبر أن جميع الحيوانات التي كانت على ظهر الأرض يومئذ ، كانت
معه في السفينة ، وإنما كان معه من كل صنف منها زوجان اثنان .
قال الله تعالى : ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ )
هود/40 .
قال الشوكاني رحمه الله - في تفسير هذه الآية - : " أي : قلنا يا نوح ، احمل في السفينة من كلّ زوجين ، مما في الأرض من الحيوانات : اثنين ؛ ذكرا ، وأنثى " انتهى من " فتح القدير " (2/ 565) .
فنوح عليه السلام لم يحمل جميع الحيوانات ، وإنما حمل من كل نوع منها اثنين ،
ذكرا وأنثى ؛ ليحصل التوالد والنسل منهما بعد ذلك .
والحيوانات الكبيرة الحجم ليست بالكثيرة جدا في عالم الحيوان ، وعدد مثل هذا لا
يحتاج إلى سفينة تصل إلى مئات الكيلومترات كما ذكر في السؤال .
ثم من قال ، وبأي دليل يقول : إن جميع الحيوانات التي يعرفها الناس اليوم ،
الكبير منها والصغير ، كانت موجودة على ظهر الأرض في زمن الطوفان ، ليركب من كل من
صنف منها : زوجان في تلك السفينة ، التي يفترض أنها لن تسع ذلك كله ؟!
وبأي دليل يمنع المانع من أن يكون الله تعالى قد خلق من الكائنات الحية ، ما خلق ،
وأوجدها على ظهر الأرض ، بعد زمن الطوفان ، لا قبله ؟!
إن من يستشكل ذلك : يجب أولا أن يكون عنده تصور عن طبيعة الحياة في ذلك العصر ،
ومدى التنوع الحيواني وأماكن انتشار الحيوانات ...الخ ، وهذا كله لا نملك عنه
معلومات قاطعة وهي واقعة خارج التاريخ المعلوم للإنسان ، فالله وحده أعلم به .
رابعاً :
أما كيف كان في بلاد كذا من الحيوان ما لا يوجد في غيره ؟ وكيف توجه حيوان كذا إلى
بلد ، دون غيره ... ؟
فجوابه سهل ميسور ؛ ألم تعلم أن الله تعالى خلق كل كائن حي ، وهداه إلى منافعه وما
يصلح شأنه ؟!
فاستمع ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الحوار الذي دار بين نبي الله موسى ، وعدو الله
الجاحد : فرعون : ( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ
الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا
يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ
شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي
النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى )
طه/49-56 .
فتأمل كيف دله موسى عليه السلام إلى أن الله جمع بين خلق الخلق ، وبين هدايته
لما ينفعه ويصلح له شأنه .
وتأمل ، كيف دله ونبهه على آيات الخلق والإعادة بما حوله من أمر الكون ، والخلق ،
والحياة والموت ، وتمهيد الأرض ، وإحيائها بالمطر ، ونبات الزرع منها !!
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، الدال على
حسن صنعه من خلقه ، من كبر الجسم وصغره وتوسطه ، وجميع صفاته ، ( ثُمَّ هَدَى ) كل
مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات ، فكل
مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضار عنه ، حتى إن الله تعالى
أعطى الحيوان البهيم من العقل ، ما يتمكن به من ذلك " انتهى من " تيسير الكريم
الرحمن في تفسير كلام المنان " (ص/590) .
ثم إن في عالمنا المشاهد اليوم بعض الحيوانات تهاجر المسافات الطويلة وتعود إلى
أماكنها ولا تخطئها ، وبدراسة قريبة الغور لعالم الأسماك ، وعالم الطيور ، وعالم
الحيوان كله : تقف من ذلك على ما يذهل العقل ، ويحير اللبيب ، ويدل الفطن على قدرة
اللطيف الخبير !!
كيف تتعرف هذه الحيوانات على الطريق الصحيح لرحلاتها ، وكيف تنتبه للتوقيت المناسب
للرحلة ؛ وكيف ، وكيف ؟!
الباحثون حاولوا الإجابة على هذه الأسئلة ؟
لكنّ الله أعطانا الجواب من قبل فقال تعالى : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى
كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه/50 .
ونعود ونذكر بما قلناه سابقا :
من أدرانا أن الله لم يخلق ما شاء من خلقه ، في زمان معين ، ومكان معين : ابتداء ؟!
ومن أين لنا العلم أن الله تعالى كان قد خلق جميع الكائنات الحية ، قبل طوفان نوح
عليه السلام ؟!
ثمّ هذه القصة التي أشكلت عليك ، هي نفسها من الأدلة الواضحة على عظمة القرآن
وأنه منزّل من الله تعالى ، وليس من قول البشر ، راجع مثلا كتاب موريس بوكاي "
القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم " وكلامه عن موضوع الطوفان في القرآن
الكريم .
والله أعلم .