الإجابة
الحمد لله
يقول الله تعالى في أول سورة " الملك " : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) الملك/
1، 2 .
يقدس الرب تعالى نفسه ، ويعظمها ، وينزهها عن العيوب والنقائص ، فيقول جل وعلا : (
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) أي : تعاظم وتعالى ، وتقدّس وتنزه ، وكثر
خيره ، وعم إحسانه ، الذي بيده ملك العالم العلوي والسفلي ، فهو الذي خلقه ، ويتصرف
فيه بما شاء ، من الأحكام القدرية، والأحكام الدينية ، التابعة لحكمته .
قال في "لسان العرب" (10/ 396)
" تباركَ اللَّهُ : تقدَّس وَتَنَزَّهَ وَتَعَالَى وَتَعَاظَمَ ، لَا تَكُونُ
هَذِهِ الصِّفَةُ لِغَيْرِهِ ، أَيْ تطَهَّرَ ، والقُدْس: الطُّهْرُ. وَسُئِلَ
أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ تَفْسِيرِ تبارَكَ اللهُ فَقَالَ : ارْتَفَعَ ،
والمُتبارِكُ: الْمُرْتَفِعُ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ : تبارَكَ تفاعَلَ مِنَ
البَرَكة ، كَذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ ، وَمَعْنَى البَرَكة الْكَثْرَةُ
فِي كُلِّ خَيْرٍ " .
( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ومن عظمته : كمال قدرته التي يقدر بها على
كل شيء ، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة ، كالسماوات والأرض .
" تفسير الطبري " (23/ 505) .
فلا يمنعه من فعله مانع ، ولا يحول بينه وبينه عجز .
( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) أي : قدّر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم .
فأمات من شاء وما شاء ، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم .
( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) أي : ليختبركم فينظر أيكم له أيها
الناس أطوع ، وإلى طلب رضاه أسرع .
قال ابن كثير رحمه الله :
" ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) : أَيْ : خَيْرٌ عَمَلًا ، كَمَا
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ ، وَلَمْ يَقُلْ أكثر عملا " انتهى من "تفسير ابن
كثير" (8/ 197) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ، قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ
: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ، قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ
وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا ، وَلَمْ يَكُنْ
صَوَابًا ، لَمْ يُقْبَلْ ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ
يُقْبَلْ ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا.
وَالْخَالِصُ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ ، وَالصَّوَابُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى
السُّنَّةِ، وَذَلِكَ تَحْقِيقُ قَوْله تَعَالَى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/ 333) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض ، والموت والحياة وزين الأرض بما
عليها : ليبلو عباده أيهم أحسن عملا ، لا أَكْثَرُ عَمَلا.
وَالْعَمَلُ الأَحْسَنُ هُوَ الأَخْلَصُ وَالأَصْوَبُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ
لِمَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، دُونَ الأَكْثَرِ الْخَالِي مِنْ ذَلِكَ ، فَهُوَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ بِالأَرْضَى لَهُ ، وَإِنْ
كَانَ قَلِيلا ، دُونَ الأَكْثَرِ الَّذِي لا يُرْضِيهِ ، وَالأَكْثَرُ الَّذِي
غَيْرُهُ أَرْضَى لَهُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ الْعَمَلانِ فِي الصُّورَةِ
وَاحِدًا وَبَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ ، بَلْ بَيْنَ قَلِيل أَحَدهمَا وَكَثِير
الآخَرِ فِي الْفَضْلِ : أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ " .
انتهى من " المنار المنيف " ( ص 30-31 ) .
وقال السعدي رحمه الله :
" أي : أخلصه وأصوبه ، فإن الله خلق عباده ، وأخرجهم لهذه الدار ، وأخبرهم أنهم
سينقلون منها ، وأمرهم ونهاهم ، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره ، فمن انقاد لأمر
الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين ، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ
أمر الله ، فله شر الجزاء " انتهى من " تفسير السعدي " ( ص 875 ) .
فالواجب أن يكون عملنا خالصا لله تعالى بلا رياء ولا سمعة ، وأن يكون على السنة بلا
إحداث وبدعة ، وهذان شرطا العمل المتقبل ، فإن الله خلق الموت والحياة ليبتلي الناس
أيهم أخلص لله وأتبع لرسوله صلى الله عليه وسلم .
( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) الذي له العزة كلها، التي قهر بها جميع الأشياء ، وانقادت له
المخلوقات .
قال ابن الأثير رحمه الله :
" الْعَزِيزُ: هُوَ الغالِبُ القَويُّ الَّذِي لَا يُغْلَب ، والعِزَّة فِي الأصلِ:
القُوَّة والشِّدَّة والغَلَبة " .
انتهى من " النهاية " (3/ 228) .
( الْغَفُورُ ) عن المسيئين والمقصرين والمذنبين ، خصوصًا إذا تابوا وأنابوا ، فإنه
يغفر ذنوبهم ، ولو بلغت عنان السماء ، ويستر عيوبهم ، ولو كانت ملء الدنيا .
قال في "النهاية" (3/ 373) :
" الْغَفَّارُ والْغَفُورُ : مِنْ أبنِية الْمُبَالَغَةِ ، وَمَعْنَاهُمَا
السَّاتِرُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ وَعُيُوبِهِمْ ، المُتَجاوِز عَن خَطَاياهُم
وَذُنُوبِهِمْ ، وَأَصْلُ الغَفْر: التَّغْطِية " انتهى .
فهو سبحانه عزيز غالب ، ينتقم ممن عصاه وشرد عليه ، وهو الغفور الرحيم ، يغفر لمن
شاء من عباده المسيئين المقصرين ويرحمهم .
كما قال تعالى عن نفسه في آية أخرى : ( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ
شَدِيدِ الْعِقَابِ ) غافر/ 3 .
وانظر :
"زاد المسير" (4/ 313-314) ، "تفسير القرطبي" (18/206-208) ، " فتح القدير" (5/
308) .
وراجع لمعرفة فضل تلاوة سورة تبارك وملازمتها جواب السؤال رقم : (1397)
.
والله تعالى أعلم .