الإجابة
الحمد لله
أولا :
قول الله عز وجل : ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ )
الأعلى/ 6، 7 ، هذا إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلمه هذا
القرآن ويحفظه عليه فلا ينسى منه شيئا ، إلا ما شاء الله من رفعه ونسخه .
قال ابن جزي رحمه الله :
" هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعده الله أن يقرئه القرآن فلا ينساه ، وفي
ذلك معجزة له عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان أمياً لا يكتب ، وكان مع ذلك لا ينسى
ما أقرأه جبريل عليه السلام من القرآن ، وقيل : معنى الآية كقوله : ( لاَ تُحَرِّكْ
بِهِ لِسَانَكَ ) الآية : فإنه عليه الصلاة والسلام كان يحرك به لسانه إذا أقرأه
جبريل ، خوفاً أن ينساه فضمن الله له أن لا ينساه ، وقيل : فلا تنسى نهي عن النسيان
، وقد علم الله أن ترك النسيان ليس في قدرة البشر ، فالمراد الأمر بتعاهده حتى لا
ينساه ، وهذا بعيد لإثبات الألف في ( تنسى ) " .
انتهى من "التسهيل" (ص 2597) .
وقال السعدي رحمه الله :
" أي : سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب ، ونوعيه قلبك ، فلا تنسى منه شيئًا ، وهذه
بشارة كبيرة من الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، أن الله سيعلمه علمًا
لا ينساه ، ( إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ) مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة "
انتهى من " تفسير السعدي" (ص 920) .
فهذا هو النسيان الذي حُفظ عنه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهو نسيان الرفع فيما
أُمر فيه بالبلاغ ، فهذا لا بد أن يذكره فلا ينساه ؛ حتى يكمل الدين وتتم النعمة .
ثانيا :
أما ما رواه البخاري (5038) ومسلم (788) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ
بِاللَّيْلِ فَقَالَ : ( يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا
آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا ) .
فهذا هو النسيان الجبلي الفطري الذي خُلق عليه آدم عليه السلام وبنوه ، وقد كان
يقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك أحيانا ، وليس هو المقصود بقوله : ( سنقرئك فلا
تنسى ) .
قال النووي رحمه الله :
" فيه دَلِيل عَلَى جَوَاز النِّسْيَان عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيمَا قَدْ بَلَّغَهُ إِلَى الْأُمَّة " انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ : النِّسْيَان مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآن يَكُون عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدهمَا :
نِسْيَانه الَّذِي يَتَذَكَّرهُ عَنْ قُرْبٍ , وَذَلِكَ قَائِم بِالطِّبَاعِ
الْبَشَرِيَّة , وَعَلَيْهِ يَدُلّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيث اِبْن مَسْعُود فِي السَّهْو ( إِنَّمَا أَنَا بِشْر مِثْلكُمْ أَنْسَى
كَمَا تَنْسَوْنَ ) .
وَالثَّانِي : أَنْ يَرْفَعهُ اللَّه عَنْ قَلْبه عَلَى إِرَادَة نَسْخِ
تِلَاوَته , وَهُوَ الْمُشَار إِلَيْهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى : (
سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه ) .
قَالَ : فَأَمَّا الْقِسْم الْأَوَّل فَعَارِض سَرِيع الزَّوَال لِظَاهِرِ
قَوْله تَعَالَى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ ) .
وَأَمَّا الثَّانِي فَدَاخِل فِي قَوْله تَعَالَى : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ
نُنْسِهَا ) عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ أَوَّله مِنْ غَيْر هَمْزَة "
انتهى .
وقال ابن باز رحمه الله :
" اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة ، فلا ينسون شيئا مما
أوحاه الله إليهم ، إلا شيئا قد نسخ ، وقد تكفل الله جل وعلا لرسوله _ صلى الله
عليه وسلم _ أن يقرئه فلا ينسى ، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه ، وتكفل له
بأن يجمع له القرآن في صدره . قال تعالى . " سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله "
الأعلى /6-7 ، وقال تعالى : ( إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) "
انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (6/371 ) .
فالحاصل أن النسيان نوعان : نسيان رفع ونسخ وذهاب للمنسي بالكلية ، فهذا الذي
حفظ منه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا ينسى من القرآن ، إلا ما شاء الله أن ينسيه
إياه مما أراد رفعه ونسخه ، وهو المراد بقوله تعالى :
( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ) . وهذا الذي اتفق
عليه أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع منه ذلك .
والنوع الثاني : نسيان جبلي فطري فهذا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا ، وهو المراد بقوله : ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي ) رواه البخاري (386) ومسلم (889) وقوله : ( يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا ) ؛ وهذا لا محذرو فيه ، لأنه لا يخل بواجب الرسالة والبلاغ ، ما دامت الآية أو الشيء المنسي محفوظا في نفس الأمر ، ويعود النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتذكره من قريب ؛ ولهذا أدرك بنفسه صلى الله عليه وسلم ، كما في الحديث المذكور ، أنه نسي شيئا أثناء الصلاة ، ولم يذكره أحد به .
راجع إجابة السؤال رقم (1642) ، والسؤال رقم () .
والله أعلم .