الإجابة
الحمد لله
اختلف المفسرون في هؤلاء الرسل الثلاثة الذين ضرب الله بقصتهم مثلا في سورة " يس "،
هل هم من رسل الله عز وجل ، أم من أصحاب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، وذلك
على قولين :
القول الأول : أنهم رسل الله تعالى ، ورسله عز وجل كثيرون ، كما قال تعالى :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) غافر/78.
يروى هذا القول عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه ، لكن الإسناد إليهم لا يصح
، حيث يرويه الطبري في " جامع البيان " (20/500) وفي إسناده انقطاع ظاهر ، ونقله
ابن تيمية في " الجواب الصحيح " (2/247) من كلام أبي العالية حيث قال عنهم : "
قالوا : نحن رسل رب العالمين "
واختار هذا القول من المحققين شيخ الإسلام ابن تيمية ، والحافظ ابن كثير ، واعتمده
أيضا العلامة السعدي في " تيسير الكريم الرحمن " (ص/693)
ويمكن أن يستدل له بما يأتي :
أولا : جواب أهل القرية لهؤلاء المرسلين كان بقولهم : ( ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا )، وهذا الجواب حكاه القرآن الكريم عن تكذيب الكفار لرسل الله ، فقد كانوا
يريدون إرسال الملائكة بدلا من البشر ، ولو كانوا رسلا لعيسى عليه السلام لم ينكر
أصحاب القرية رسالتهم بهذه الحجة .
ثانيا : ظاهر القرآن الكريم يدل على أنهم رسل الله مباشرة ، وذلك في قوله تعالى : (
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ) فنسب الإرسال إلى نفسه عز وجل بضمير الجمع
( أرسلنا ) .
القول الثاني : أنهم رسل المسيح عيسى بن مريم ، بعثهم
إلى مدينة " أنطاكية "، وقد روى هذا القول جماعة من العلماء عن قتادة فيما بلغه ،
واعتمده أكثر المفسرين وقدموه في تفسيرهم للآيات ، بل قال ابن كثير: "هو الذي لم
يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره" انتهى من " تفسير القرآن العظيم" (6/573)
انظر : " تفسير البغوي " (7/10)، " الكشاف " (4/7)، " التسهيل لعلوم التنزيل " لابن
جزي (2/180)، "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" لأبي السعود (7/161)،
"أنوار التنزيل وأسرار التأويل" للبيضاوي (4/ 264)، "مفاتيح الغيب" للرازي
(26/260)، "فتح القدير " للشوكاني (4/417)
قال قتادة رحمه الله :
" ذُكر لنا أن عيسى ابن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية -مدينة بالروم-
فكذبوهما فأعزهما بثالث " انتهى رواه الطبري بإسناده في " جامع البيان " (20/500)
ودليل هذا القول هو النقل عن قتادة فقط ، وإلا فليس في
سياق القصة في القرآن الكريم تصريح ولا تلميح بذلك .
ثم أجابوا عن أدلة القول الأول بما يأتي :
أولا : اعتراض أصحاب القرية بكون الرسل بشرا هو من التعنت الذي اعتاده المكذبون ،
والمتعنت لا فرق عنده بين رسل الله المباشرين ورسل عيسى عليه السلام ، فهو يبحث عن
الجدال العقيم ، ويتذرع بأي شبهة ليكذب بها الرسل ، فيستعمل هذا الجواب الداحض لكل
من ذكَّره بالله ، وأَمَرَه بالإيمان به وحده لا شريك له .
ثانيا : أما الإسناد إلى ضمير الجمع ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ )
قالوا هو على سبيل المجاز ، فإن رسل عيسى هم رسل الله عز وجل أيضا ، ولكن بالواسطة
، فجاز في اللغة نسبتهم إلى المرسِل الأول .
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مناقشة هذا الموضوع في كتابه العظيم "
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح "، وذلك في معرض الجواب عن دعوى من يقول إن
الحواريين أصحاب عيسى عليه السلام كانوا من الرسل أو من الأنبياء ، وبعضهم يستدل
بهذه الآيات في سورة يس ، فبين بوجوه كثيرة أن الرسل الثلاثة الوارد ذكرهم في سورة
يس هم رسل الله أرسلوا إلى تلك القرية قبل بعث المسيح عليه السلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" بعضهم يقول : إن المسيح أرسلهم في حياته .
لكن المعروف عند النصارى أن أهل أنطاكية آمنوا بالحواريين واتبعوهم ، لم يهلك الله
أهل أنطاكية ، والقرآن يدل على أن الله أهلك قوم هذا الرجل الذي آمن بالرسل .
وأيضا فالنصارى يقولون : إنما جاءوا إلى أهل أنطاكية بعد رفع المسيح ، وأن الذين
جاءوا كانوا اثنين لم يكن لهما ثالث ، قيل : أحدهما شمعون الصفا ، والآخر بولص ،
ويقولون إن أهل أنطاكية آمنوا بهم ، ولا يذكرون حبيب النجار ، ولا مجيء رجل من أقصى
المدينة ، فالأمر المنقول عند النصارى أن هؤلاء المذكورين في القرآن ليسوا من
الحواريين ، وهذا أصح القولين عند علماء المسلمين وأئمة المفسرين ، وذكروا أن
المذكورين في القرآن في سورة يس ليسوا من الحواريين بل كانوا قبل المسيح ، وسموهم
بأسماء غير الحواريين ; كما ذكر محمد بن إسحاق .
وهذا القول هو الصواب ، وأن هؤلاء المرسلين كانوا رسلا لله قبل المسيح ، وأنهم
كانوا قد أرسلوا إلى أنطاكية ، وآمن بهم حبيب النجار ، فهم كانوا قبل المسيح ، ولم
تؤمن أهل المدينة بالرسل ؛ بل أهلكهم الله تعالى كما أخبر في القرآن ، ثم بعد هذا
عمرت أنطاكية وكان أهلها مشركين حتى جاءهم من جاءهم من الحواريين ، فآمنوا بالمسيح
على أيديهم ، ودخلوا دين المسيح .
ويقال إن أنطاكية أول المدائن الكبار الذين آمنوا بالمسيح - عليه السلام - وذلك بعد
رفعه إلى السماء ، ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المذكورين في القرآن هم رسل المسيح
وهم من
الحواريين ، وهذا غلط لوجوه :
منها : أن الله قد ذكر في كتابه أنه أهلك الذين جاءتهم الرسل ، وأهل أنطاكية لما
جاءهم من دعاهم إلى دين المسيح آمنوا ولم يهلكوا .
ومنها : أن الرسل في القرآن ثلاثة ، وجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى ، والذين
جاءوا من أتباع المسيح كانوا اثنين ، ولم يأتهم رجل يسعى ، لا حبيب ، ولا غيره .
ومنها : أن هؤلاء جاءوا بعد المسيح ، فلم يكن الله أرسلهم .
ومعلوم عند الناس أن أهل أنطاكية لم يصبهم ذلك بعد مبعث المسيح ، بل آمنوا قبل أن
يبدل دينه ، وكانوا مسلمين مؤمنين به على دينه إلى أن تبدل دينه بعد ذلك .
ومما يبين ذلك أن المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي
الأمم بعذاب من السماء يعمهم ; كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم
، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار ; كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال
الجبابرة ، وهذه القرية أهلك الله أهلها بعذاب من السماء ، فدل ذلك على أن هؤلاء
الرسل المذكورين في يس كانوا قبل موسى عليه السلام .
وأيضا فإن الله لم يذكر في القرآن رسولا أرسله غيرُه ، وإنما ذكر الرسل الذين
أرسلهم هو .
وأيضا فإنه قال : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث ) يس/14، فأخبر
أنه أرسلهم ; كما أخبر أنه أرسل نوحا وموسى وغيرهما .
وفي الآية : ( قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء ) يس/15، ومثل
هذا هو خطاب المشركين لمن قال : إن الله أرسله وأنزل عليه الوحي لا لمن جاء رسولا
من عند رسول .
وقد قال بعد هذا : ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون )
يس/30.
وهذا إنما هو في الرسل الذين جاءوهم من عند الله ، لا من عند رسله .
وأيضا فإن الله ضرب هذا مثلا لمن أرسل إليه محمدا صلى الله عليه وسلم يحذرهم أن
ينتقم الله منهم ; كما انتقم من هؤلاء ، ومحمد إنما يضرب له المثل برسول نظيره ، لا
بمن أصحابه أفضل منهم ، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا أفضل من الحواريين باتفاق
علماء المسلمين ، ولم يبعث الله بعد المسيح رسولا ، بل جعل ذلك الزمان زمان فترة .
وأيضا فإنه قال تعالى : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا
إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ) يس/14 ، ولو كانوا رسل رسول ، لكان
التكذيب لمن أرسلهم ، ولم يكن في قولهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا شبهة ) فإن أحدا
لا ينكر أن يكون رسل رسل الله بشرا ، وإنما أنكروا أن يكون رسول الله بشرا .
وأيضا : فلو كان التكذيب لهما وهما رسل الرسول ، لأمكنهما أن يقولا : فأرسلوا إلى
من أرسلنا أو إلى أصحابه ، فإنهم يعلمون صدقنا في البلاغ عنه ، بخلاف ما إذا كانا
رسل الله .
وأيضا فقوله : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين ) يس/14، صريح في أن الله هو المرسل ، ومن
أرسلهم غيره إنما أرسلهم ذلك لم يرسلهم الله ; كما لا يقال لمن أرسله محمد بن عبد
الله إنهم رسل الله ، فلا يقال لدحية بن خليفة الكلبي أن الله أرسله ، ولا يقال ذلك
للمغيرة بن شعبة وعبد الله بن حذافة وأمثالهما ممن أرسلهم الرسول .
ومعلوم أنه لا يقال في هؤلاء : إن الله أرسلهم ، ولا يسمون عند المسلمين رسل الله ،
ولا يجوز باتفاق المسلمين أن يقال هؤلاء داخلون في قوله : ( لقد أرسلنا رسلنا
بالبينات ) الحديد/25.
فإذا كانت رسل محمد صلى الله عليه وسلم لم يتناولهم اسم " رسل الله " في الكتاب
الذي جاء به ، فكيف يجوز أن يقال : إن هذا الاسم يتناول رسل رسول غيره " انتهى
باختصار من " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " (2/245-255)، وقد اختصر ابن كثير
كلام شيخه ابن تيمية ، وأعاد صياغة الردود ، وذلك في " تفسير القرآن العظيم "
(6/573-574) .
وبهذا يتبين صحة القول الأول الذي هو " ظاهر القرآن "
كما قال ابن الجوزي رحمه الله في " زاد المسير " (3/521)، وإن رجح في " المنتظم "
(2/31) القول الثاني .
والله أعلم .