الإجابة
الحمد لله
لا يختلف المسلمون أن فرعون عاش كافرا ومات كافرا ، وأنه من أشد الناس كفرا ، وأن
مصيره إلى النار خالدا مخلدا فيها أبدا .
قال الله تعالى عن فرعون وقومه : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ *
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) غافر/45 ، 46 .
وآل فرعون هنا هم فرعون وقومه .
وأما نطق فرعون بالإيمان في آخر لحظات حياته فذلك إيمان في وقت لا ينفع فيه الإيمان
، لأنه بعد نزول العذاب ، وقد قضى الله تعالى أن الإيمان في هذا الوقت لا ينفع
صاحبه ، لأنه يكون إيماناً اضطرارياً .
قال الله تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي
عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) غافر/ 84، 85
قال الطبري رحمه الله :
" يقول تعالى ذكره : فلم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه
قد نزل ، وعذابه قد حل ، لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا ، إذ كان قد مضى
حكم الله في السابق من علمه ، أن من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم
تنفعه توبته " . انتهى من"تفسير الطبري" (21 /424) .
وقال السعدي رحمه الله :
" وهذه سنة الله وعادته التي قد خلت في عباده : أن المكذبين حين ينزل بهم بأس الله
وعقابه إذا آمنوا ، كان إيمانهم غير صحيح ، ولا منجيا لهم من العذاب ، وذلك لأنه
إيمان ضرورة ، قد اضطروا إليه ، وإيمان مشاهدة ، وإنما الإيمان النافع الذي ينجي
صاحبه ، هو الإيمان الاختياري ، الذي يكون إيمانا بالغيب ، وذلك قبل وجود قرائن
العذاب ". انتهى من "تفسير السعدي" (ص 743) .
ويدل على هذا المعنى في قصة فرعون تمام الآيات التي في سورة يونس ، حيث يقول الله
تعالى : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) يونس/ 91، 92
والمعنى : آلآن آمنت حيث لا ينفعك إيمانك ، فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن بعدك آية
وعبرة يعتبرون بك ، فينزجرون عن معصية الله ، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد .
وانظر : "تفسير الطبري" (15 /194) .
وقد روى الترمذي وحسنه (3107) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ
قَالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ . فَقَالَ جِبْرِيلُ : يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا
آخُذُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ – يعني طينه - فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ
تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ ) وصححه الألباني .
فهذا فعل جبريل مع فرعون ، خشي أن تدركه رحمة الله عز وجل ، فكان يضع من طين البحر
في فمه حتى يسكت ولا يستطيع النطق بالإيمان .
وقد قال الله تعالى : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) النساء/ 17، 18 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَأَمَّا مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ فَهَذَا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي
قَالَ : أَنَا اللَّهُ ( حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ
لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ) قَالَ اللَّهُ : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ ) وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ
التَّوْبَةَ لَيْسَتْ هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ؛
فَإِنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ : إمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذَا قَابَلَ
الْإِخْبَارَ وَإِمَّا بِمَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ إذَا قَابَلَ الْإِنْشَاءَ
وَهَذَا مِنْ هَذَا ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (18 /190) .
وقال ايضاً :
" هؤلاء الاتحادية من أتباع صاحب "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية" ونحوهم هم الذين
يعظمون فرعون ، ويدعون أنه مات مؤمنا ، وأن تغريقه كان بمنزلة غسل الكافر إذا أسلم
، ويقولون : ليس في القرآن ما يدل على كفره ، ويحتجون على إيمانه بقوله : ( حتى إذا
أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين )
وتمام القصة تبين ضلالهم ، فإنه قال سبحانه : ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
) وهذا استفهام إنكار وذم ، ولو كان إيمانه صحيحا مقبولا لما قيل له ذلك .
وقد قال موسى عليه السلام : ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) يونس/ 88 . قال الله
تعالى : ( قد أجيبت دعوتكما ) ، فاستجاب الله دعوة موسى وهارون ، فإن موسى كان يدعو
وهارون يؤمّن أن فرعون وملأه لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم .
ثم إنه سبحانه وتعالى قال بعد قوله : ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين *
فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) فجعله الله تعالى عبرة وعلامة لمن يكون
بعده من الأمم لينظروا عاقبة من كفر بالله تعالى ، ولهذا ذكر الله تعالى الاعتبار
بقصة فرعون وقومه في غير موضع .
ثم إن الله تعالى أخبر عن فرعون بأعظم أنواع الكفر : من جحود الخالق ، ودعواه
الإلهية ، وتكذيب من يقر بالخالق سبحانه ، ومن تكذيب الرسول ووصفه بالجنون والسحر
وغير ذلك ......
وفرعون هو أكثر الكفار ذكرا في القرآن ، وهو لا يذكره سبحانه إلا بالذم والتقبيح
واللعن ، ولم يذكره بخير قط .
وهؤلاء الملاحدة المنافقون يزعمون أنه مات طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث " .
انتهى ملخصا من"جامع الرسائل" (1 /207-212) .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (14/126) :
" لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ الْكَافِرِ
بِإِسْلاَمِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ ؛ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى
حِكَايَةً عَنْ حَال فِرْعَوْنَ : ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَال
آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل وَأَنَا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ الآْنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْل وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )
" انتهى .
والخلاصة :
أن فرعون مات كافرا ، وقوله لما عاين ملائكة العذاب " آمنت " لا ينفعه ؛ لأنه قاله
في حال الضرورة الملجئة ، وحال الغرغرة التي يفوت بها وقت التوبة .
والله تعالى أعلم .