الإجابة
الحمد لله
فهم هذه الآية يسير على من يسره الله عليه ، فهي من الآيات المحكمات في كتاب الله المبين ، ليس فيها تناقض ولا تعارض إلا في أذهان بعض الحاقدين ، ساعدهم جهلهم باللغة ومعاني القرآن الكريم ، فظنوا أن قوله تعالى : ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) يعني أن المصائب التي هي ( السيئة ) هنا يخلقها الإنسان نفسه ، وهذا جهل بالغ لا يقع فيه إلا أعجمي نزعته عجمته ، أو عربي مفتون غلبه هواه ، وذلك أن حرف الجر ( مِن ) هنا – في قوله تعالى : ( فمن نفسك ) - تعني السببية ، أي : بسببك أنت أيها الإنسان ، بسبب معصيتك ومخالفتك أمر الله تعالى تصيبك المصائب ، كما قال عز وجل : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى/30.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" قوله : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ) أي : خِصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك ، هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي .
( يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) أي : قحط ، وجدب ، ونقص في الثمار والزروع ، أو موت أولاد أو نتاج ، أو غير ذلك ، كما يقوله أبو العالية والسدي .
( يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) أي : من قِبَلك ، وبسبب اتباعنا لك ، واقتدائنا بدينك ، كما قال تعالى عن قوم فرعون : ( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ) الأعراف/131، وكما قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ) الحج/11.
( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي : الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البَرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر . قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .
ثم قال تعالى مخاطبًا للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) أي : من فضل الله ومنِّه ولطفه ورحمته .
( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي : فمن قِبَلك ، ومن عملك أنت ، كما قال تعالى : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى/30، قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جُريج ، وابن زيد : ( فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي : بذنبك .
وقال قتادة : ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق، إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر )
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح : ( والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه ) " انتهى باختصار. " تفسير القرآن العظيم " (2/361-363)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قال تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله ) أي : ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله ، نعمة أنعم بها عليك وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة ، فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى ومنَّ عليك بالإيمان وزيَّنه في قلبك ، وكرَّه إليك الكفر والفسوق والعصيان .
وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : ( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) وفي الحديث الصحيح : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ؛ فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه ذلك دخل الجنة ، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة )
ثم قال تعالى : ( وما أصابك من سيئة ) مِن ذل ، وخوف ، وهزيمة ، كما أصابهم يوم أحد
( فمن نفسك ) أي بذنوبك وخطاياك ، وإن كان ذلك مكتوبا مقدرا عليك ، فإن القدر ليس حجة لأحد ، لا على الله ، ولا على خلقه ، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقَب ظالم ، ولم يقاتَل مشرك ، ولم يُقم حد ، ولم يَكف أحد عن ظلم أحد ، وهذا من الفساد في الدين والدنيا ، المعلوم ضرورة فساده للعالَم بصريح المعقول المطابق لما جاء به الرسول " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (8/113-114)
ويقول العلامة السعدي رحمه الله :
" يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون ، المعرضين عما جاءت به الرسل ، المعارضين لهم : أنهم إذا جاءتهم حسنة أي : خصب وكثرة أموال وتوفر أولاد وصحة ، قالوا : ( هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) ، وأنهم إن أصابتهم سيئة أي : جدب وفقر ومرض وموت أولاد وأحباب ، قالوا : ( هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) أي : بسبب ما جئتنا به يا محمد ، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله ، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى : ( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ) ، وقال قوم صالح: ( قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) ، وقال قوم ياسين لرسلهم : ( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم ، وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم .
قال الله في جوابهم : ( قُلْ كُلٌّ ) أي : من الحسنة والسيئة ، والخير والشر . ( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي : بقضائه وقدره وخلقه .
ثم قال تعالى : ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ) أي : في الدين والدنيا ( فَمِنَ اللَّهِ ) هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها .
( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ ) في الدين والدنيا ( فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي : بذنوبك وكسبك ، وما يعفو الله عنه أكثر .
فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله ، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله ، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه ، فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص/188)
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قول الله عز وجل : ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ) النساء/78، ثم يقول في الآية التي بعدها : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) النساء/79، فكيف الجمع بينهما ؟
فأجاب :
الجمع بينهما أن الآية الأولى تقديرا ، يعني من الله ، هو الذي قدرها ، والآية الثانية سببا يعني : أن ما أصابك من سيئة فأنت السبب ، والذي قدر السيئة وقدر العقوبة عليه هو الله " انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " (لقاء رقم/15، سؤال رقم/15)
والله أعلم .