الفتاوى

هل يدخل المسلمون في الذين أذهبوا طيباتهم في الحياة الدنيا ؟
من هم الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ؟ هل يدخل فيهم من تلذذ بالطعام والشراب ولبس أحسن الثياب ، واشترى أغلى العطور ، وركب أحسن السيارات ؟ .

الإجابة

الحمد لله
قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) الأحقاف/ 20 .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
" اعلم أن للعلماء كلاما كثيراً في هذه الآية ، قائلين : إنها تدل على أنه ينبغي التقشف ، والإقلال من التمتع بالمآكل ، والمشارب ، والملابس ، ونحو ذلك ، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفاً من أن يدخل في عموم مَن يقال لهم يوم القيامة : ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) ، والمفسرون يذكرون هنا آثاراً كثيرة في ذلك ، وأحوال أهل الصفة ، وما لاقوه مِن شدة العيش .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية هو : أنها في الكفار ، وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم ؛ لأنه تعالى ما أباحها لهم ليُذهب بها حسناتهم .
وإنما قلنا : إن هذا هو التحقيق ؛ لأن الكتاب والسنَّة الصحيحة دالان عليه ، والله تعالى يقول : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) النساء/ 59 .
أما كون الآية في الكفار : فقد صرح الله تعالى به في قوله : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ) .
والقرآن والسنَّة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملاً صالحاً مطابقاً للشرع ، مخلصاً فيه لله ، كالكافر الذي يبر والديه ، ويصل الرحم ، ويقري الضيف ، وينفس عن المكروب ، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله : يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق ، والعافية ، ونحو ذلك ، ولا نصيب له في الآخرة .
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود/ 15 ، 16 , وقوله تعالى : ( وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ نَصِيبٍ ) الشورى/ 20 .
وقد قيَّد تعالى هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته ، في قوله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) الإسراء/ 18 .
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً ، يُعطي بها في الدنيا ، ويُجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر : فيُطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها ) هذا لفظمسلمفي صحيحه .
وفي لفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته ) ا.هـ.
فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه التصريح بأن الكافر يُجازى بحسناته في الدنيا فقط ، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً ، وبمقتضى ذلك يتعين تعييناً لا محيص عنه أن الذي أذهب طيباته في الدنيا ، واستمتع بها هو الكافر ؛ لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة .
وأما المؤمن الذي يُجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً : فلم يُذهب طيباته في الدنيا ؛ لأن حسناته مدخرة له في الآخرة ، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا ، كما قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) الطلاق/ 2،3 , فجعل المخرج من الضيق له ، ورزقه من حيث لا يحتسب ثواباً في الدنيا ، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة ،
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وعلى كل حال : فالله جل وعلا أباح لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا ، وأجاز لهم التمتع بها ، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة ، كما قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الأعراف/ 32 .
فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة ، وهو صريح في أنهم لم يُذهبوا طيباتِهم في حياتهم الدنيا .
ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة يكون لهم أجر زائد على ذلك ؛ لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد ، كما هو معلوم .
والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يُذهب طيباته في الحياة الدنيا ؛ لأنه يجزي في الدنيا فقط كالآيات المذكورة ، وحديث أنس المذكور عند مسلم : قد قدمناها موضحة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : ( وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) الإسراء/ 19 ، وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه .
" أضواء البيان " ( 7 / 229 – 231 ) .
غير أن هذه الآية العظيمة ، وإن كانت واردة في شأن الكفار ، كما هو بيِّنٌ من لفظها ، وكما حققه الشيخ رحمه الله ، فلقد كانت عادةً معروفة في السلف : أن يستدلوا بالآيات الواردة في شأن الكفار ، على من عمل مثل أعمالهم من المسلمين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، بعد ما ذكر قول الله تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (لأعراف:179) ، وآيات أخرى في ذلك السياق :
" فطائفة من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها كقوله : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه وأمثالها مما ذكر الله في عيوب الإنسان وذمها ، فيقول هؤلاء : هذه الآية في الكفار ، والمراد بالإنسان هنا : الكافر ؛ فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيب ; بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرا للشرك من العرب ، أو إلى من يعرفهم من مظهري الكفر كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند ونحو ذلك ، فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها الله ليهتدي بها عباده .
فيقال : - أولا - : المظهرون للإسلام فيهم مؤمن ومنافق ، والمنافقون كثيرون في كل زمان والمنافقون في الدرك الأسفل من النار .
ويقال : " ثانيا : الإنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر ، وإن كان معه إيمان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر . وإذا خاصم فجر فأخبر أنه من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق . وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه : إنك امرؤ فيك جاهلية وأبو ذر - رضي الله عنه - من أصدق الناس إيمانا ...
وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر " انتهى .
مجموع الفتاوى (10/105-106)
ويشهد لذلك الأصل ـ أن من استعجل الطيبات ، على وجه محرم ، فإنه معرض للحرمان من طيبات الآخرة ، بقدر ما استعجل ، وإن كان مؤمنا ـ قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ ) .
رواه البخاري ( 5494 ) ومسلم ( 2073 ) .
قال ابن القيم رحمه الله - وهو يعدد العقوبات التي تقع على الزاني إذا لم يتب - :
ومنها : أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن ، والله سبحانه وتعالى إذا كان قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه لبسه يوم القيامة ، وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة ، فكذلك مَن تمتع بالصور المحرمة في الدنيا ، بل كل ما ناله العبد في الدنيا من حرام : فاته نظيره يوم القيامة .
" روضة المحبين " ( 365 - 368 ) .
وذكر الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة رقم (384) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : ( من لبس الحرير في الدنيا : لم يلبسه في الآخرة ، ومن شرب الخمر في الدنيا : لم يشربه في الآخرة ، ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا : لم يشرب بها في الآخرة ، ثم قال : لباس أهل الجنة ، وشراب أهل الجنة ، وآنية أهل الجنة ) ، ثم قال :
" اعلم أن الأحاديث في تحريم لبس الحرير , وشرب الخمر , والشرب في أواني الذهب والفضة , هي أكثر من أن تحصر , وإنما أحببت أن أخص هذا الحديث بالذكر , لأنه جمع الكلام على هذه الأمور الثلاثة , وساقها مساقاً واحداً , ثم ختمها بقوله : ( لباس أهل الجنة ... ) , الذي يظهر أنه خرج مخرج التعليل , يعني : أن الله تعالى حرم لباس الحرير - على الرجال خاصة - لأنه لباسهم في الجنة كما قال تعالى ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) الحج/ 23 , وحرَّم الخمر على الرجال والنساء ؛ لأنه شرابهم في الجنة قال تعالى ( مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ ) محمد/ 15 ، وحرَّم الشرب في آنية الذهب والفضة على الرجال والنساء أيضاً ؛ لأنها آنيتهم قال تعالى : ( ادْخُلُواْ الْجَنّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ) الزخرف/ 71 ، فمن استعجل التمتع بذلك غير مبال ولا تائب , عوقب بحرمانه منها في الآخرة ، جزاء وِفاقاً .
وما أحسن ما رواه الحاكم عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال : " استأذن سعد على ابن عامر , وتحته مرافق - وهي شيء يتكأ عليه شبيه بالوسادة - من حرير , فأمر بها فرفعت , فدخل عليه وعليه مِطْرف خز , فقال له : استأذنت عليَّ وتحتي مرافق من حرير فأمرت بها فرفعت , فقال له : نعم الرجل أنت يا ابن عامر ، إن لم تكن ممن قال الله عز وجل ( أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا ) الأحقاف/ 20 , والله لأن أضطجع على جمر الغضا أحب إليَّ من أن أضطجع عليها " صحيح ، على شرط مسلم . " انتهى
على أن التمتع بالطيبات من الرزق ، وإن كان مباحا ، إلا أنه لا ينبغي أن يكون غالب شأن الإنسان ، ولا ينبغي له أن يعود نفسه على التنعم والإرفاه ، فليس ذلك من شأن المنشغلين بالآخرة ، كما في مسند الإمام أحمد (21600) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ : ( إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ ) حسنه الألباني في صحيح الجامع .
ومن السلف من كان يعد ذلك ، بل ما هو دونه ، من إذهاب الطيبات :
روى البخاري (1274) أن عبد الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أتي يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ :
" قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي " .
وفي رواية للبخاري (4045) : ( وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الزُّهْدِ , وَأَنَّ الْفَاضِلَ فِي الدِّينِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا تَنْقُصَ , حَسَنَاتُهُ , وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِقَوْلِهِ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا قَدْ عُجِّلَتْ ".
وروى مالك في الموطأ (1742) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ فَقَالَ : " مَا هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا " في إسناده انقطاع ، وضعفه الألباني .
قال الحليمي رحمه الله : " وهذا الوعيد من الله تعالى ، وإن كان للكفار الذين الذين يقدمون على الطيبات المحظورة ، ولذلك قال : اليوم تجزون عذاب الهون ، فقد يخشى مثله على المنهمكين في الطيبات المباحة ؛ لأن من تعودها مالت نفسه إلى الدنيا فلم يؤمن أن يرتبك في الشهوات والملاذ ، كلما أجاب نفسه إلى واحدة منها دعته إلى غيرها ، فيصير إلى أن لا يمكنه عصيان نفسه في هوى قط ، وينسد باب العبادة دونه ؛ فإذا آل الأمر به إلى هذا لم يبعد أن يقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ؛ فلا ينبغي أن تُعود النفسُ ما يميل بها إلى الشره ، ثم يصعب تداركها ، ولتُرَضْ من أول الأمر على السداد ، فإن ذلك أهون من أن تَدْرَب على الفساد ، ثم يجتهد في إعادتها إلى الصلاح ، والله أعلم . " انتهى .
نقله الببيهقي في شعب الإيمان (7/462-463) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله ـ فتح الباري (9/106) :
" والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفُّه والبطر ، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات ؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا ، فلا يستطيع الانتقال عنه ، فيقع في المحظور ، كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلى التنطع المنهي عنه ، ويَرِد عليه صريح قوله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف : 26 ، كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها ، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا ، وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة ، وخير الأمور الوسط " انتهى .
والخلاصة :
أن الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا طائفتان :
الأولى : الكفار والمشركون .
والثانية : العصاة الذين وقعوا في المعاصي مما له نظير في الجنة ، ولم يُطهَّروا من آثارها بحدٍّ ، أو توبة ، أو مغفرة من الله تعالى .
ولا يدخل في هؤلاء من تنعَّم بالمباحات والطيبات وأدى شكرها ، لكن لا ينبغي أن يعود الإنسان نفسه الترف والتنعم ، لما يخشى عليه من الوقوع في الشبهة أو الحرام ، أو الانشغال بها عما هو أولى ، وتبرم نفسه إذا فقدها .
والله أعلم

Icon